فصل: تفسير الآية رقم (41)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏عَلِيماً ياأيها الذين ءامَنُواْ اذكروا الله‏}‏ بما هو جل وعلا أهله من التعليل والتحميد والتمجيد والتقديس ‏{‏ذِكْراً كَثِيراً‏}‏ يعم أغلب الأوقات والأحوال كما قال غير واحد، وعن ابن عباس الذكر الكثير أن لا ينسى جل شأنه، وروي ذلك عن مجاهد أيضاً، وقيل‏:‏ أن يذكر سبحانه بصفاته العلي وأسمائه الحسنى وينزه عما لا يليق به، وعن مقاتل هو أن يقال‏:‏ سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر على كل حال‏.‏ وعن العترة الطاهرة رضي الله تعالى عنهم من قال ذلك ثلاثين مرة فقد ذكر الله تعالى ذكراً كثيراً، وفي مجمع البيان عن الواحدي بسنده إلى الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس قال‏:‏ جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا محمد قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم عدد ما علم وزنة ما علم وملء ما علم فإنه من قالها كتب له بها ست خصال كتب من الذاكرين الله تعالى كثيراً وكان أفضل من ذكره بالليل والنهار وكن له غرساً في الجنة وتحاتت عنه خطاياه كما تحات ورق الشجرة اليابسة وينظر الله تعالى إليه ومن نظر الله تعالى إليه لم يعذبه كذا رأيته في مدونة فلا تغفل، وقال بعضهم‏:‏ مرجع الكثرة العرف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏وَسَبّحُوهُ‏}‏ ونزهوه سبحانه عما لا يليق به ‏{‏بُكْرَةً وَأَصِيلاً‏}‏ أي أول النهار وآخره، وتخصيصهما بالذكر ليس لقصر التسبيح عليهما دون سائر الأوقات بل لا نافة ففضلهما على سائر الأوقات لكونهما تحضرهما ملائكة الليل والنهار وتلتقي فيهما كإفراد التسبيح من بين الأذكار مع إندراجه فيها لكونه العمدة بينها، وقيل‏:‏ كلا الأمرين متوجه إليهما كقولك‏:‏ صم وصل يوم الجمعة، وبتفسير الذكر الكثير بما يعم أغلب الأوقات لا تبقى حاجة إلى تعلقهما بالأول وعن ابن عباس أن المراد بالتسبيح الصلاة أي بإطلاق الجزء على الكل والتسبيح بكرة صلاة الفجر والتسبيح أصيلاً صلاة العشاء، وعن قتادة نحو ما روي عن ابن عباس إلا أنه قال‏:‏ أشار بهذين الوقتين إلى صلاة الغداة وصلاة العصر وهو أظهر مما روي عن الحبر‏.‏ وتعقب ما روي عنهما بأن فيه تجوزاً من غير ضرورة، وقد يقال‏:‏ إن التسبيح على حقيقته لكن التسبيح بكرة بالصلاة فيها والتسبيح أصيلاً بالصلاة فيه فتأمل‏.‏

وجوز أن يكون المراد بالذكر المأمور به تكثير الطاعات والإقبال عليها فإن كل طاعة من جملة الذكر ثم خص من ذلك التسبيح بكرة وأصيلاً أي الصلاة في جميع أوقاتها أو صلاة الفجر والعصر أو الفجر والعشاء لفضل الصلاة على غيرها من الطاعات البدنية، ولا يخفى بعده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏هُوَ الذى يُصَلّى عَلَيْكُمْ‏}‏ الخ استئناف جار مجرى التعليل لما قبله من الأمرين ‏{‏وَمَلَئِكَتُهُ‏}‏ عطف على الضمير في ‏{‏يُصَلّى‏}‏ لمكان الفصل المغنى عن التأكيد بالمنصل لا على ‏{‏هُوَ‏}‏ والصلاة في المشهور وروي ذلك عن ابن عباس من الله تعالى رحمة ومن الملائكة استغفار ومن مؤمني الإنس والجن دعاء، ويجوز على رأي من يجوز استعمال اللفظ في معنيين أن يراد بالصلاة هنا المعنيان الأولان فيراد بها أولاً الرحمة وثانياً الاستغفار، ومن لا يجوز كأصحابنا يقول بعموم المجاز بأن يراد يالصلاة معنى مجازي عام يكون كلا المعنيين فرداً حقيقياً له وهو إما الاعتناء بما فيه خير المخاطبين وصلاح أمرهم فإن كلا من الرحمة والاستغفار فرد حقيقي له وهذا المجاز من الصلاة بمعنى الدعاء وهو إما استعارة لأن الاعتناء يشبه الدعاء لمقارنة كل منهما لإرادة الخير والأمر المحبوب أو مجاز مرسل لأن الدعاء مسبب عن الاعتناء وأما الترحم والانعطاف المعنوي المأخوذ من الصلاة المعروفة المشتملة على الانعطاف الصوري الذي هو الركوع والسجود، ولا ريب في أن استغفار الملائكة عليهما السلام ودعاءهم للمؤمنين ترحم عليهم، وأما أن ذلك سبب للرحمة لكونهم مجابي الدعوة كما قيل ففيه بحث، ورجح جعل المعنى العام ما ذكر بأنه أقرب لما بعد فإنه نص عليه فيه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً‏}‏ فدل على أن المراد بالصلاة الرحمة‏.‏ واعترض بأن رحم متعد وصلى قاصر فلا يحسن تفسيره به، وبأنه يستلزم جواز رحم عليه، وبأنه تعالى غاير بينهما بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صلوات مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 157‏]‏ للعطف الظاهر في المغايرة‏.‏ وأجيب بأنه ليس المراد بتفسير صلى برحم إلا بيان أن المعنى الموضوع له صلى هو الموضوع له رحم مع قطع النظر عن معنى التعدي واللزوم فإن الرديفين قد يختلفان في ذلك وهو غير ضار فزعم أن ذلك لا يحسن وأنه يلزم جواز رحم عليه ليس في محله على أنه يحسن تعدية صلى بعلي دون رحم لما في الأول من ظهور معنى التحنن والتعطف والعطف لأن الصلاة رحمة خاصة ويكفي هذا القدر من المغايرة، وقيل‏:‏ إن تعدد الفاعل صير الفعل كالمتعدد فكأن الرحمة مرادة من لفظ والاستغفار مراد من آخر فلا حاجة إلى القول بعموم المجاز وليس هناك استعمال لفظ واحد حقيقة وحكماً في معنيين وهو كما ترى، ومثله كون ‏{‏ملائكته‏}‏ مبتدأ خبره محذوف لدلالة ما قبل عليه كأنه قيل هو الذي يصلي عليكم وملائكته يصلون عليكم فهناك لفظان حقيقة كل منهما بمعنى، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يزيدك علماً بأمر الصلاة، وسبب نزول الآية ما أخرجه عبد بن حميد‏.‏

وابن المنذر قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏إِنَّ الله وملائكته يُصَلُّونَ عَلَى النبى‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 56‏]‏ قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه‏:‏ ما أنزل الله تعالى عليك خيراً إلا أشركنا فيه فنزلت‏:‏ ‏{‏هُوَ الذى يُصَلّى عَلَيْكُمْ وَمَلَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مّنَ الظلمات إِلَى النور‏}‏ أي من ظلمات المعاصي إلى نور الطاعة، وقال الطبرسي‏:‏ من الجهل بالله تعالى إلى معرفته عز وجل فإن الجهل أشبه شيء بالظلمة والمعرفة أشبه شيء بالنور؛ وقال ابن زيد‏:‏ أي من الضلالة إلى الهدى، وقال مقاتل‏:‏ من الكفر إلى الإيمان، وقيل‏:‏ من النار إلى الجنة حكاه الماوردي، وقيل‏:‏ من القبور إلى البعث حكاه أبو حيان وليس بشيء، واللام متعلقة بيصلي أي يعتني بكم هو سبحانه وملائكته ليخرجكم أو يترحم هو عز وجل وملائكته ليخرجكم بذلك من الظلمات إلى النور ‏{‏وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً‏}‏ اعتراض مقرر لمضمون ما قبله أي كان سبحانه بكافة المؤمنين الذين أنتم من زمرتهم كامل الرحمة ولذا يفعل بكم ما يفعل بالذات وبالواسطة أو كان بكم رحيماً على أن المؤمنين مظهر وضع موضع المضمر مدحاً لهم وإشعاراً بعلة الرحمة، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سلام‏}‏ بيان للأحكام الآجلة لرحمته تعالى بهم بعد بيان آثارها العاجلة من الإخراج المذكور، والتحية أن يقال‏:‏ حياك الله أي جعل لك حياة وذلك إخبار ثم يجعل دعاء، ويقال حيا فلان تحية إذا قال له ذلك، وأصل هذا اللفظ من الحياة ثم جعل كل دعاء تحية لكون جميعه غير خارج عن حصول الحياة أو سبب حياة إما لدنيا أو لآخرة‏.‏

وهو هنا مصدر مضاف إلى المفعول وقع مبتدأ و‏{‏سلام‏}‏ مراداً به لفظه خبره، والمراد ما يحييهم الله تعالى به ويقوله لهم يوم يلقونه سبحانه ويدخلون دار كرامته سلام أي هذا اللفظ‏.‏ روي أن الله تعالى يقول‏:‏ سلام عليكم عبادي أنا عنكم راض فهل أنتم عني راضون فيقولون‏:‏ بأجمعهم يا ربنا إنا راضون كل الرضا‏.‏ وورد أن الله تعالى يقول‏:‏ السلام عليكم مرحباً بعبادي المؤمنين الذين أرضوني في دار الدنيا باتباع أمري، وقيل‏:‏ تحييهم الملائكة عليهم السلام بذلك إذا دخلوا الجنة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سلام عَلَيْكُمُ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 23و24‏]‏‏.‏

وقيل‏:‏ تحييهم عند الخروج من القبور فيسلمون عليهم ويبشرونهم بالجنة، وقيل عند الموت‏.‏

وروي عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ إذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن قال‏:‏ ربك يقرئك السلام، قيل‏:‏ فعلى هذا الهاء في ‏{‏يَلْقَوْنَهُ‏}‏ كناية عن غير مذكور وهو ملك الموت، ولا ضرورة تدعو لذلك إذ لا مانع من أن يكون الضمير لله تعالى عليه كما هو كذلك على الأقوال الأخر جميعها‏.‏ ولقاء الله تعالى على ما أشار إليه الإمام عبارة عن الإقبال عليه تعالى بالكلية بحيث لا يعرض للشخص ما يشغله ويلهيه أو يوجب غفلته عنه عز وجل ويكون ذلك عند دخول الجنة وفيها وعند البعث وعند الموت‏.‏

وقال الراغب‏:‏ ملاقاة الله تعالى عبارة عن القيامة وعن المصير إليه عز وجل، وقال الطبرسي‏:‏ هي ملاقاة ثوابه تعالى وهو غير ظاهر على جميع الأقوال السابقة بل ظاهر على بعضها كما لا يخفى، وعن قتادة في الآية أنهم يوم دخولهم الجنة يحيى بعضهم بعضاً بالسلام أي سلمنا وسلمت من كل مخوف، والتحية عليه على ما قال الخفاجي مصدر مضاف للفاعل‏.‏ وفي البحر هي عليه مصدر مضاف للمحيي والمحيي لا على جهة العمل لأن الضمير الواحد لا يكون فاعلاً مفعولاً ولكنه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهدين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 78‏]‏ أي للحكم الذي جرى بينهم‏.‏

وكذا يقال هنا التحية الجارية بينهم هي سلام، وقول المحيي في ذلك اليوم سلام اخبار لادعاء لأنه أبلغ على ما قيل فتدبر، وأخرى الأقوال بالقبول عندي أن الله تعالى يسلم عليهما يوم يلقونه إكراماً لهم وتعظيماً‏.‏

‏{‏وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً‏}‏ أي وهيأ عز وجل لهم ثواباً حسناً، والظاهر أن التهيئة واقعة قبل دخول الجنة والتحية ولذا لم تخرج الجملة مخرج ما قبلها بأن يقال وأجرهم أجر كريم أي ولهم أجر كريم، وقيل‏:‏ هي بعد الدخول والتحية فالكلام بيان لآثار رحمته تعالى الفائضة عليهم بعد دخول الجنة عقيب بيان آثار رحمته الواصلة إليهم قبل ذلك، ولعل إيثار الجملة الفعلية على الاسمية المناسبة لما قبلها للمبالغة في الترغيب والتشويق إلى الموعود ببيان أن الأمر الذي هو المقصد الأقصى من بين سائر آثار الرحمة موجود بالفعل مهيأ لهم مع ما فيه من مراعاة الفواصل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏ياأيها النبى إِنَّا أرسلناك شاهدا‏}‏ على من بعثت إليهم تراقب أحوالهم وتشاهد اعمالهم وتتحمل عنهم الشهادة بما صدر عنهم من التصديق والتكذيب وسائر ما هم عليه من الهدى والضلال وتؤديها يوم القيامة أداء مقبولاً فيما لهم وما عليهم، وهو حال مقدرة وإن اعتبر الإرسال أمراً ممتداً لاعتبار التحمل والآداء في الشهادة، والإرسال بذلك الاعتبار وإن قارن التحمل إلا أنه غير مقارن للإداء وإن اعتبر الامتداد‏.‏

وقيل‏:‏ بإطلاق الشهادة على التحمل فقط تكون الحال مقارنة والأحوال المذكورة بعد على اعتبار الامتداد مقارنة، ولك أن لا تعتبره أصلاً فتكون الأحوال كلها مقدرة، ثم أن تحمل الشهادة على من عاصره صلى الله عليه وسلم واطلع على عمله أمر ظاهر، وأما تحملها على من بعده باعيانهم فإن كان مراداً أيضاً ففيه خفاء لأن ظاهر الأخبار أنه عليه الصلاة والسلام لا يعرف أعمال من بعده بأعيانهم، وروي أبو بكر‏.‏ وأنس‏.‏ وحذيفة‏.‏ وسمرة‏.‏ وأبو الدرداء عنه صلى الله عليه وسلم ليردن على ناس من أصحابي الحوض حتى إذا رأيتهم وعرفتهم اختلجوا دوني فأقول‏:‏ يا رب أصيحابي أصيحابي فيقال لي‏:‏ إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك‏.‏ نعم قد يقال‏:‏ إنه عليه الصلاة والسلام يعلم بطاعات ومعاص تقع بعده من أمته لكن لا يعلم أعيان الطائعين والعاصين، وبهذا يجمع بين الحديث المذكور وحديث عرض الأعمال عليه صلى الله عليه وسلم كل أسبوع أو أكثر أو أقل، وقيل‏:‏ يجمع بانه عليه الصلاة والسلام يعلم الأعيان أيضاً إلا أنه نسى فقال‏:‏ أصيحابي، ولتعظيم قبح ما أحدثوا قيل له‏:‏ إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، وقيل‏:‏ يعرض ما عدا الكفر وهو كما ترى، وأما زعم أن التحمل على من بعده إلى يوم القيامة لما أنه صلى الله عليه وسلم حي بروحه وجسده يسير حيث شاء في أقطار الأرض والملكوت فمبني على ما علمت حاله، ولعل في هذين الخبرين ما يأباه كما لا يخفى على المتدبر، وأشار بعض السادة الصوفية إلى أن الله تعالى قد أطلعه صلى الله عليه وسلم على أعمال العباد فنظر إليها ولذلك أطلق عليه عليه الصلاة والسلام شاهد‏.‏ قال مولانا جلال الدين الرومي قدس سره العزيز في مثنويه‏:‏

در نظر بودش مقامات العباد *** زان سبب نامش خدا شاهد نهاد

فتأمل ولا تغفل، وقيل‏:‏ المراد شاهداً على جميع الأمم يوم القيامة بأن أنبيائهم قد بلغوهم الرسالة ودعوهم إلى الله تعالى، وشهادته بذلك لما علمه من كتابه المجيد، وقيل‏:‏ المراد شاهداً بأن لا إله إلا الله ‏{‏وَمُبَشّراً‏}‏ تبشر الطائعين بالجنة ‏{‏وَنَذِيرًا‏}‏ تنذر الكافرين والعاصين بالنار، ولعموم الإنذار وخصوص التبشير قيل‏:‏ مبشراً ونذيراً على صيغة المبالغة دون ومنذراً مع أن ظاهر عطفه على ‏{‏مُبَشّرًا‏}‏ يقتضي ذلك وقدم التبشير لشرف المبشرين ولأنه المقصود الأصلي إذ هو صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين وكأنه لهذا جبر ما فاته من المبالغة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَبَشّرِ المؤمنين‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 47‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏وَدَاعِياً إِلَى الله‏}‏ أي إلى الإقرار به سبحانه وبوحدانيته وبسائر ما يجب الإيمان به من صفاته وأفعاله عز وجل، ولعل هذا هو مراد ابن عباس‏.‏ وقتادة من قولهما أي شهادة أن لا إله إلا الله ‏{‏بِإِذْنِهِ‏}‏ أي بتسهيله وتيسيره تعالى، وأطلق الاذن على التسهيل مجازاً لما أنه من أسبابه لا سيما الإذن من الله عز وجل ولم يحمل على حقيقته وإن صح هنا أن يأذن الله تعالى شأنه له عليه الصلاة والسلام حقيقة في الدعوة لأنه قد فهم من قوله سبحانه‏:‏ إنا أرسلناك داعياً أنه صلى الله عليه وسلم مأذون له في الدعوة، ومما ذكر يعلم أن ‏{‏بِإِذْنِهِ‏}‏ من متعلقات داعياً، وقيدت الدعوة بذلك إيذاناً بأنها أمر صعب المنال وخطب في غاية الأعضال لا يتأتى إلا بإمداد من جناب قدمه كيف لا وهو صرف للوجوه عن القبل المعبودة وادخال للأَعناق في قلادة غير معهودة، وجوز رجوع القيد للجميع والأول أظهر ‏{‏وَسِرَاجاً مُّنِيراً‏}‏ بستضيء به الضالون في ظلمات الجهل والغواية ويقتبس من نوره أنوار المهتدين إلى مناهج الرشد والهداية، وهو تشبيه إما مركب عقلي أو تمثيلي منتزع من عدة أمور أو مفرق، وبولغ في الوصف بالإنارة لأن من السرج ما لا يضيء إذا قل سليطه ودقت فتيلته‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ هو معطوف على شاهداً بتقدير مضاف أي ذا سراح منير، وقال الفراء‏:‏ إن شئت كان نصباً على معنى وتاليا سراجاً منيراً، وعليهما السراح المنير القرآن، وإذا فسر بذلك احتمل على ما قيل أن يعطف على كاف ‏{‏أرسلناك‏}‏ على معنى أرسلناك والقرآن إما على سبيل التبعية وإما من باب متقلداً سيفاً ورمحاً، وقيل‏:‏ إنه على تقدير تالياً سراجاً يجوز هذا العطف أي إنا أرسلناك وتالياً سراجاً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَتْلُو صَفْحاً مُّطَهَّرَةٍ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 2‏]‏ على أنه الجامع بين الآمرين على نحو ‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى وهارون الفرقان وَضِيَاء‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 8 4‏]‏ أي أرسلنا بإرسالك تالياً‏.‏

وجوز أن يراد وجعلناك تالياً، وقيل‏:‏ يجوز أن يراد بذا سراج القرآن وحينئذ يكون التقدير إنا أرسلناك وأنزلنا عليك ذا سراح‏.‏ وتعقب بأن جعل القرآن ذا سراج تعسف، والحق أن كل ما قيل كذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏وَبَشّرِ المؤمنين‏}‏ عطف على مقدر يقتضيه المقام ويستدعيه النظام كأنه قيل‏:‏ فراقب أحوال الناس وبشر المؤمنين‏.‏ وجوز عطفه على الخبر السابق عطف القصة على القصة، وقيل‏:‏ هو معطوف عليه ويجعل في معنى الأمر لأنه في معنى ادعهم شاهداً ومبشراً ونذيراً الخ وبشر المؤمنين منهم ‏{‏بِأَنَّ لَهُمْ مّنَ الله فَضْلاً كِبِيراً‏}‏ أي عطاء جزيلاً وهو كما روي عن الحسن‏.‏ وقتادة الجنة وما أوتوا فيها ويؤيده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِى روضات الجنات لَهُمْ مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 22‏]‏ وقيل‏:‏ المعنى فضلاً على سائر الأمم في الرتبة والشرف أو زيادة على أجور أعمالهم بطريق التفضيل والإحسان‏.‏

أخرج ابن جرير وابن عكرمة عن الحسن قال‏:‏ لما نزل ‏{‏لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 2‏]‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله قد علمنا ما يفعل بك فماذا يفعل بنا‏؟‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَبَشّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مّنَ الله فَضْلاً كِبِيراً‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين‏}‏ نهى عن مداراتهم في أمر الدعوة ولين الجانب في التبليغ والمسامحة في الإنذاء كني عن ذلك بالنهي عن طاعتهم مبالغة في النهي والتنفير عن المنهى عنه بنظمها في سلكها وتصويره بصورتها، وحمل غير واحد النهي على التهييج والإلهاب من حيث أنه صلى الله عليه وسلم لم يطعهم حتى ينهى، وجعله بعضهم من باب إياك أعني واسمعي يا جارة فلا تغفل‏.‏

‏{‏وَدَعْ أَذَاهُمْ‏}‏ أي لا تبال بإيذائهم إياك بسبب إنذارك إياهم وأصبر على ما ينالك منهم قاله قتادة فأذاهم مصدر مضاف للفاعل، وقال أبو حيان‏:‏ الظاهر أنه مصدر مضاف للمفعول لما نهي صلى الله عليه وسلم عن طاعتهم أمر بترك إيذائهم وعقوبتهم ونسخ منه ما يخص الكافرين بآية السيف وروي نحوه عن مجاهد‏.‏ والكلبي والأولى أولى ‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى الله‏}‏ في كل ما تأتي وتذر من الشؤون التي من جملتها هذا الشأن فإنه عز وجل يكفيهم ‏{‏وكفى بالله وَكِيلاً‏}‏ موكولاً إليه الأمور في كل الأحوال، وإظهار الاسم الجليل في موقع الاضمار لتعليل الحكم وتأكيد استقلال الاعتراض التذييلي ولما وصف‏:‏ صلى الله عليه وسلم بنعوت خمسة قوبل كل واحد منها بخطاب يناسبه خلا أنه لم يذكر ما قابل الشاهد صريحاً وهو الأمر بالمراقبة ثقة بظهور دلالة المبشر عليه وهو الأمر بالتبشير حسبما ذكر آنفاً وقابل النذير بالنهي عن مداراة الكافرين والمنافقين والمسامحة في إنذارهم وقوبل الداعي بإذنه بالأمر بالتوكل عليه من حيث أنه عبارة عن الاستمداد منه تعالى والاستعانة به عز وجل وقوبل السراج المنير بالاكتفاء به تعالى فإن من أيده الله تعالى بالقوة القدسية ورشحه للنبوة وجعله برهاناً نيراً يهدي الخلق من ظلمات الغي إلى نور الرشاد حقيق بأن يكتفي به تعالى عمن سواه، وجعل الزمخشري مقابل الشاهد ‏{‏وبشر المؤمنين‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 47‏]‏ ومقابل الاعراض عن الكافرين والمنافقين المبشر أعني المؤمنين وتكلف في ذلك‏.‏

وقال الطيبي طيب الله تعالى ثراه‏:‏ نظير هذه الآية ما روى البخاري‏:‏ والإمام أحمد عن عطاء بن يسار قال‏:‏ لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت‏:‏ أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة قال‏:‏ والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للمؤمنين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح ولن يقبضه الله تعالى حتى يقيم به الملة العوجاء ويفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفا، وروي الدارمي نحوه عن عبد الله بن سلام فقوله‏:‏ حرزاً للمؤمنين مقابل لقوله تعالى‏:‏

‏{‏وَدَاعِياً إِلَى الله بِإِذْنِهِ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 6 4‏]‏ فإن دعوته صلى الله عليه وسلم إنما حصلت فائدتها فيمن وفقه الله تعالى‏:‏ بتيسيره وتسهيله فلذلك أمنوا من مكاره الدنيا وشدائد الآخرة فكان صلوات الله تعالى وسلامه عليه بهذا الاعتبار حرزاً لهم، وقوله سميتك المتوكل الخ مقابل لقوله‏:‏ ‏{‏وَسِرَاجاً مُّنِيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 6 4‏]‏ فعلم أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وكفى بالله وَكِيلاً‏}‏ مناسب لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَسِرَاجاً مُّنِيراً‏}‏ فإن السراج مضيء في نفسه ومنور لغيره فبكونه متوكلاً على الله تعالى يكون كاملاً في نفسه فهو مناسب بقوله‏:‏ أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل إلى قوله‏:‏ يعفو ويصفح وكونه منيراً يفيض الله تعالى عليه يكون مكملاً لغيره وهو مناسب لقوله‏:‏ حتى يقيم به الملة العوجاء الخ ثم قال‏:‏ ويمكن أن ينزل المراتب على لسان أهل العرفان فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أرسلناك شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 5 4‏]‏ هو مقام الشريعة ودعوة الناس إلى الإيمان وترك الكفرة ونتيجة الأعراض عما سوى الله تعالى والأخذ في السير والسلوك والالتجاء إلى حريم لطفه تعالى والتوكل عليه عز وجل وقوله، سبحانه‏:‏ ‏{‏وَسِرَاجاً مُّنِيراً‏}‏ هو مقام الحقيقة ونتيجته فناء السالك وقيامه بقيوميته تعالى اه، ولا يخفى تكلف ما قرره في الحديث والله تعالى أعلم بمراده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا‏}‏ عود إلى ذكر النساء، والنكاح هنا العقد بالاتفاق واختلفوا في مفهومه لغة فقيل هو مشترك بين الوطء والعقد اشتراكاً لفظياً، وقيل‏:‏ حقيقة في العقد مجاز في الوطء، وقيل‏:‏ بقلبه وقيل هو مشترك بينهما اشتراكاً معنوياً وهو من أفراد المشكل وحقيقته الضم والجمع كما في قوله‏:‏

ضممت إلى صدري معطر صدرها *** كما نكحت أم الغلام صبيها

ونقل المبرد ذلك عن البصريين‏.‏ وغلام ثعلب الشيخ عمر والزاهد عن الكوفيين، ثم المتبادر من لفظ الضم تعلقه بالأجسام لا الأقوال لأنها أعراض يتلاشى الأول منها قبل وجود الثاني فلا يصادف الثاني ما ينضم إليه وهذا يقتضي كونه مجازاً في العقد، وإن اعتبر الضم أعم من ضم الجسم إلى الجسم والقول إلى القول جاز أن يكون النكاح حقيقة في كل من الوطء والعقد وجاز أن يكون مجازاً على التفصيل المعروف في استعمال العام في كل فرد من أفراده، واختار الراغب القول الثاني من الأقوال السابقة وبالغ في عدم قبول الثالث‏:‏ فقال هو حقيقة في العقد ثم استعير للجماع ومحال أن يكون في الأصل للجماع ثم استعير للعقد لأن أسماء الجماع كلها كنايات لاستقباحهم ذكره كاستقباح تعاطيه ومحال أن يستعير من لا يقصد فحشاً اسم ما يستفظعونه لما يستحسنه‏.‏

واختار الزمخشري الثالث فقال‏:‏ النكاح الوطء وتسمية العقد نكاحاً لملابسته له من حيث أنه طريق له ونظيره تسمية الخمر إثماً لأنها سبب في اقتراف الاثم، ولم يرد لفظ النكاح في كتاب الله تعالى إلا في معنى العقد لأنه في حق الوطء من باب التصريح به ومن آداب القرآن الكناية عنه بلفظ الملامسة والمماسسة والقربان والتغشي والاتيان، وأراد على ما قيل إنه في العقد حقيقة شرعية منسى فيه المعنى اللغوي، وبحث في قوله لم يرد لفظ النكاح في كتاب الله تعالى إلا في معنى العقد بأنه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 0 3 2‏]‏ بمعنى الوطء وهذا ما عليه الجمهور وخالف في ذلك ابن المسيب، وتمام الكلام في موضعه، والمس في الأصل معروف وكنى به هنا عن الجماع، والعدة هي الشيء المعدود وعدة المرأة المراد بها الأيام التي بانقضائها يحل لها التزوج أي يا أيها الذين آمنوا إذا عقدتم على المؤمنات وتزوجتموهن ثم طلقتموهن من قبل أن تجامعوهن فما لكم عليهن من عدة بإيام يتربصن فيها بأنفسهن تستوفون عددها على أن تعتدون مطاوع عد يقال عد الدراهم فاعتدها أي استوفى عددها نحو قولك كلته فأكتلته ووزنته فأتزنته أو تعدونها على أن افتعل بمعنى فعل، وإسناد الفعل إلى الرجال للدلالة على أن العدة حق الأزواج كما أشعر به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا لَكُمْ‏}‏ واعترض بأن المذكور في كتب الفروع كالهداية وغيرها أنها حق الشرع ولذا لا تسقط لو اسقطها الزوج ولا يحل لها الخروج ولو أذن لها وتتداخل العدتان ولا تداخل في حق العبد وحق الولد أيضاً ولذا قال صلى الله عليه وسلم

«لا يحل لامرىء مؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقى ماءه زرع غيره» وفرعوا على ذلك أنهما لا يصدقان في ءبطالها باتفاقهما على عدم الوطء‏.‏

وأجيب بأنه ليس المراد أنها صرف حقهم بل أن نفعها وفائدتها عائدة عليهم لأنها لصيانة مياههم والأنساب الراجعة إليهم فلا ينافي أن يكون للشرع والولد حق فيها يمنع إسقاطها ولو فرض أنها صرف حقهم يجوز أن يقال‏:‏ إن عدم سقوطها بإسقاطهم لا ينافي ذلك إلا إذا ثبت أن كل حق للعبد إذا أسقطه العبد سقط وليس كذلك فإن بعض حقوق العبد لا تسقط بإسقاطه كالإرث وحق الرجوع الهبة وخيار الرؤية، ثم أن في الاستدلال بالحديث على أنها حق الولد تأملاً كما لا يخفى، وتخصيص المؤمنات من عموم الحكم للكتابيان للتنبيه على أن المؤمن شأنه أن يتخير لنطفته ولا ينكح إلا مؤمنة، وحاصله أنه لبيان الأخرى والأليق بعد ما فصل في البقرة نكاح الكتابيات، وفائدة المجيء بثم مع أن الحكم ثابت لمن تزوج امرأة وطلقها على الفور كثبوته لمن تزوجها وطلقها بعد مدة مديدة إزاحة ما عسى يتوهم أن تراخى الطلاق له ودخل في إيجاب العدة لاحتمال الملاقاة والجماع سراً كما أن له دخلاً في النسب، ويمكن أن تكون الإشارة إلى التراخي الرتبى فإن الطلاق وإن كان مباحاً لا كراهة فيه على ما قيل لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النساء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 6 23‏]‏ غير محبوب كالنكاح من حيث أنه يؤدي إلى قطع الوصلة وحل قيد العصمة المؤدي لقلة التناسل الذي به تكثر الأمة ولهذا ورد كما أخرج أبو داود‏.‏ وابن ماجه‏.‏ والحاكم‏.‏ والطبراني‏.‏ وابن عدي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعاً «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» ورواه البيهقي مرسلاً بدون ابن عمر بل قال العلامة ابن الهمام‏:‏ الأصح حظره وكراهته إلا لحاجة لما فيه من كفران نعمة النكاح وللأخبار الدالة على ذلك، ويحمل لفظ المباح في الخبر المذكور على ما أبيح في بعض الأوقات أعني أوقات تحقق الحاجة المبيحة وهو ظاهر في رواية لأبي داود ما أحل الله شيئاً أبغض إليه من الطلاق، والفعل لا عموم له في الأزمان والحاجة المبيحة الكبر والريبة مثلاً وعدوا من المبيح عدم اشتهائها بحيث يعجز أو يتضرر بإكراهه نفسه على جماعها مع عدم رضاها بإقامتها في عصمته من غير وطء أو قسم‏.‏

وأما ما روى عن الحسن السبط رضي الله تعالى عنه وكان قبل له في كثرة تزوجه وطلاقه فقال‏:‏ أحب الغناء فقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلاًّ مّن سَعَتِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 130‏]‏ فهو رأي منه إن كان على ظاهره، وكل ما نقل عن طلاق الصحابة رضي الله تعالى عنهم فمحمله وجود الحاجة، وظاهر الآية يقتضي عدم وجوب العدة بمجرد الخلوة لأنه سبحانه نفي فيها وجوب العدة إذا طلقت قبل الجماع والخلوة ليست جماعاً وهي عندنا إذا كانت صحيحة على الوجه المبين في كتب الفروع كالجماع في وجوب العدة فتجب فيه العدة احتياطاً لتوهم الشغل نظراً إلى التمكن الحقيقي بل قالوا هو مثله في جميع أحكامه سوى عشرة نظمها أفضل من عاصرناه من الفقهاء الشيخ محمد الأمين الشامي الشهير بابن عابدين بقوله‏:‏

وخلوته كالوطء في غير عشرة *** مطالبة بالوطء إحصان تحليل

وفيء وارث رجعة فقد عنة *** وتحريم بنت عقد بكر وتغسيل

وظاهر قولهم بوجوب العدة فيها أنها واجبها قضاء وديانة‏.‏ وفي «الفتح» قال العتابي‏:‏ تكلم مشايخنا في العدة الواجبة بالخلوة الصحيحة أنها واجبة ظاهراً أو حقيقة فقيل‏:‏ لو تزوجت وهي متيقنة بعدم الدخول حل لها ديانة لا قضاء اه، ولم يتعقبه بشيء وذكره سعدي جلبي في «حواشي البيضاوي» وقال‏:‏ ينبغي أن يكون التعويل على هذا القول‏.‏ وتعقب ذلك الشهاب الخفاجي بأنه وإن نقله فقهاؤنا فقد صرحوا بأنه لا يعول عليه ونحو لم نر هذا التصريح فليتتبع، ثم لا يخفى أن عدم وجوب العدة في الطلاق بعد الخلوة مما يعد منطوقاً صريحاً في الآية إذا فسر المس بالجماع وليس من باب المفهوم حتى يقال‏:‏ إنا لا نقول به كما يتوهم فلا بد لإثبات وجوب العدة في ذلك من دليل‏.‏ ومن الناس من حمل المس فيها على الخلوة إطلاقاً لاسم المسبب على السبب إذا المس مسبب عن الخلوة عادة، واعترض بأنه لم يشتهر المس بمعنى الخلوة ولا قرينة في الكلام على إرادته منه، وأيضاً يلزم عليه أنه لو طلقا وقد وطئهابحضرة الناس عدم وجوب العدة لأنه قد طلقها قبل الخلوة‏.‏ وأجيب عن هذا بأن وجوب العدة في ذلك بالاجماع، وبأن العدة إذا وجبت في الطلاق بمجرد الخلوة كانت واجبة فيه بالجماع من باب أولى وكيف لا تجب به ووجوبها بالخلوة لاحتمال وقوعه فيها لا لذاتها، وقيل‏:‏ إن المس لما لم يرد ظاهره وإلا لزمت العدة فيما لو طلقها بعد أن مسها بيده في غير خلوة مع أنها لا تلزم في ذلك بلا خلاف علم أنه كني به عن معنى آخر من لوازم الاتصال فهو الجماع وما في معناه من الخلوة الصحيحة، وفيه نظر لأن عدم صحة إرادة ظاهرة لا يوجب إرادة ما يعم الجماع والخلوة لم لا يجوز إرادة الجماع ويرجحها شهرة الكناية بذلك ونحوه عن الجماع، وإطلاقه عليه إما من إطلاق اسم السبب على المسبب أو من إطلاق اسم المطلق على أخص بخوصه وهو الأوجه على ماذكره العلامة ابن الهمام، وبالجملة القول بأن ظاهر الآية يقتضي عدم وجوب العدة بمجرد الخلوة قول متين وحق مبين فتأمل‏.‏

وفي «البحر» لأبي حيان الظاهر أن المطلقة إذا راجعها زوجها قبل أن تنقضي عدتها ثم فارقها قبل أن يمسها لا تتم عدتها من الطلقة الأولى لأنها مطلقة قبل الدخول بها وبه قال داود‏.‏ وقال عطاء‏.‏ وجماعة‏:‏ تمضي في عدتها عن طلاقها الأول وهو أحد قولي الشافعي، وقال مالك‏:‏ لا تبني على العدة من الطلاق الأول وتستأنف العدة من يوم طلقها الطلاق لثاني وهو قول جمهور فقهاء الأمصار، والظاهر أيضاً أنها لو كانت بائناً غير مبتوتة فتزوجها في العدة ثم طلقها قبل الدخول فكالرجعية في قول داود ليس عليها عدة لابقية عدة الطلاق الأول ولا استئناف عدة للثاني ولها نصف المهر؛ وقال الحسن‏:‏ وعطاء‏.‏ وعكرمة‏.‏ وابن شهاب‏.‏ ومالك‏.‏ والشافعي‏.‏ وعثمان البيتي‏.‏ وزفر‏:‏ لها نصف الصداق وتتم بقية العدة الأولى، وقال الثوري‏.‏ والأوزاعي‏.‏ وأبو حنيفة‏.‏ وأبو يوسف‏:‏ لها مهر كامل للنكاح الثاني وعدة مستقبلة جعلوها في حكم المدخول بها لاعتدادها من مائه اه، وفيه أيضاً الظاهر أن الطلاق لا يكون إلا بعد العقد فلا يصح طلاق من لم يعقد عليها وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين‏.‏

وقالت طائفة كثيرة منهم مالك يصح ذلك وعنى بطلاق من لم يعقد عليها قول الرجل كل امرأة أتزوجها فهي طالق أو إن تزوجت فلانة فهي طالق‏.‏

وقد أخرج جماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن ذلك فقال‏:‏ هو ليس بشيء فقيل له‏:‏ إن ابن مسعود كان يقول إن طلق ما لم ينكح فهو جائز فقال‏:‏ أخطأ في هذا وتلا الآية‏.‏ وفي بعض الروايات أنه قال‏:‏ رحم الله تعالى أبا عبد الرحمن لو كان كما قال لقائل الله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن‏}‏ ولكن إنما قال‏:‏ ‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وكفى بالله وَكِيلاً ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ‏}‏‏.‏

وفي «الدر المنثور» عدة أحاديث مرفوعة ناطقة بأن لإطلاق قبل نكاح، والمذكور في فروعنا أن ذلك من باب التعليل وشرطه الملك أو الإضافة إليه فإذا قال‏:‏ إن نكحت امرأة فهي طالق أو إن نكحتك فأنت طالق وكل امرأة أنكحها فهي طالق يقع الطلاق إذا نكح لأن ذلك تعليق وفيه إضافة إلى الملك ويكفي معنى الشرط إلا في المعينة باسم ونسب كما إذا قال‏:‏ فلانة بنت فلان التي أتزوجها فهي طالق أو بإشارة في الحاضرة كما لو قال‏:‏ هذه المرأة التي أتزوجها طالق فإنها لا تطلق في الصورتين لتعريفها فلغا الوصف بالتي أتزوجها فصار كأنه قال‏:‏ فلانة بنت فلان أو هذه المرأة طالق وهي أجنبية ولم توجد الإضافة إلى الملك فلا يقع الطلاق إذا تزوجها فتدبر‏.‏

وقرىء ‏{‏تماسوهن‏}‏ بضم التاء وألف بعد الميم، وعن ابن كثير‏.‏ وغيره من أهل مكة ‏{‏عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا‏}‏ بتخفيف الدال ونقلها عن ابن كثير ابن خالويه‏.‏ وأبو الفضل الرازي في «اللوامح» عنه وعن أهل مكة، وقال ابن عطية‏:‏ روى ابن أبي بزة عن ابن كثير أنه قرأ بتخفيف الدال من الدعوان كأنه قال‏:‏ فما لكم عدة تلزمونها عدواناً وظلماً لهن، والقراءة الأولى أشهر عنه وتخفيف الدال وهم من ابن أبي بزرة اه، وليس بوهم إذ قد نقله عنه جماعة غيره، وخرج ذلك على أن ‏{‏تَعْتَدُّونَهَا‏}‏ من الاعتداء بمعنى الظلم كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لّتَعْتَدُواْ‏}‏ تعتدون فيها كقوله‏:‏

ويوماً شهدناه سليماً وعامرا *** قليل سوى طعن الدراك نوافله

أي شهدنا فيه فحذف حرف الجر ووصل الفعل بالضمير، وقال أبو حيان‏:‏ إن الاعتداء يتعدى بعلى فالمراد تعتدون عليهن فيها، ونظيره في حذف على قوله‏:‏

تحن فتبدي ما بها من صبابة *** وأخفى الذي لولا الأسى لقضاني

فإنه أراد لقضى على، وجوز أن يكون ذلك على إبدال أحد الدالين بالتاء، وقيل عليه‏:‏ إنه تخريج غير صحيح لأن عد يعد من باب نصر كما في كتب اللغة فلا وجه لفتح التاء لو كانت مبدلة من الدال فالظاهر حمله على حذف إحدى الدالين تخفيفاً، وقرأ الحسن بإسكان العين كغيره وتشديد الدال جمعاً بين الساكنين ‏{‏تَعْتَدُّونَهَا فَمَتّعُوهُنَّ‏}‏ أي فأعطوهن المتعة وهي في المشهور درع أي قميص وخمار وهو ما تعطي به المرأة رأسها وملحفة وهي ما تلتحف به من قرنها إلى قدمها ولعلها ما يقال له إزار اليوم، وهذا على ما في «البدائع» أدنى ما تكسي به المرأة وتتستر عند الخروج‏.‏

ويفهم من كلام فخر الإسلام‏.‏ والفاضل البر جندي أنه يعتبر عرف كل بلدة فيما تكسي به المرأة عند الخروج، والمفتي به الأشبه بالفقه قول الخصاف إنها تعتبر بحالهما فإن كانا غنيين فلها الأعلى من الثياب أو فقيرين فالأدنى أو مختلفين فالوسط، وتجب لمطلقة قبل الوطء والخلوة عند معتبرها لم يسم لها في النكاح تسمية صحيحة من كل وجه مهر ولا تزيد على نصف مهر المثل ولا تنقص عن خمسة دراهم فإن ساوت النصف فهي الواجبة وأن كان النصف أقل منها فالواجب الأقل إلا أن ينقص عن خمسة دراهم فيكمل لها الخمسة، وفي «البدائع» لو دفع لها قيمة المتعة أجبرت على القبول، فمعنى الآية على ما سمعت وكان الأمر للوجوب فمتعوهن إن لم يكن مفروضاً لهن في النكاح وروى هذا عن ابن عباس، وأما المفروض لها فيه إذا طلقت قبل المس فالواجب لها نصف المفروض لا غير‏.‏

وأما المتعة فهي على ما في «المبسوط» والمحيط وغيرهما من المعتبرات مستحبة، وعلى ما في بعض نسخ القدوري ومشى عليه صاحب الدرر غير مستحبة أيضاً والأرجح أنها مستحبة، وفي قول الشافعي القديم أنها واجبة كما في صورة عدم الفرض، وجوز أن تبقى الآية على ظاهرها ويكون المراد ذكر حكم المطلقة قبل المس سواء فرض لها في النكاح أم لم يفرض ويراد بالمتعة العطاء مطلقاً فيعم نصف المفروض والمتعة المعروفة في الفقة ويكون الأمر للوجوب أيضاً أو يراد بالمتعة معناها المعروف ويحمل الأمر على ما يشمل الوجوب والندب‏.‏

وادعى سعيد بن المسيب كما أخرج عبد بن حميد أن الآية منسوخة بآية البقرة ‏{‏وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 237‏]‏ قال‏:‏ فصار لها نصف الصداق ولا متاع لها، وأنكر الحسن وأبو العالية النسخ وقالا لها نصف الصداق ولها المتاع‏.‏

وجاء في رواية أخرى أخرجها عبد بن حميد عن الحسن أيضاً أن لكل مطلقة متاعاً دخل بها أم لم يدخل بها فرض لها أو لم يفرض، وظاهره دعوى الوجوب في الكل وهو خلاف ما عندنا، وقد علمت الحكم في صورتين وهو في الصورتين الباقيتين الاستحباب؛ وأما دعوى النسخ فلايخفى ما فيها، والظاهر أن الفاء لتفريع ما بعدها على ما قبلها، وقيل‏:‏ فصيحة أي إذا كان كما ذكر فمتعوهن ‏{‏وَسَرّحُوهُنَّ‏}‏ أي أخرجوهن من منازلكم إذ ليس لكم عليهن عدة وأصل التسريح أن ترعى الإبل السرح وهو شجر له ثمرة ثم جعل لكل إرسال في الرعي ثم لكل إرسال وإخراج ‏{‏سَرَاحاً جَمِيلاً‏}‏ مشتملاً على كلام طيب عارياً عن أذى ومنع واجب، وقيل‏:‏ السراح الجميل أن لا يطالبوهن بما آتوهن، وقال الجبائي هو الطلاق السني، وليس بشيء لأن ذاك لعطفه على التمتيع الواقع بعد الفاء مرتب على الطلاق فيلزم ترتب الطلاق السني على الطلاق والضمير لغير المدخول بهن فلا يمكن أن يكون ذلك طلاقاً مرتباً على الطلاق الأول لأن غير المدخول بهن لا يتصور فيها لحوق طلاق بعد طلاق آخر مع أنها إذا طلقت بانت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏ياأيها النبى إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك اللاتى ءاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ‏}‏ أي مهورهن كما قال مجاهد، وغيره وأطلق الأجر على المهر لأنه أجر على الاستمتاع بالبضع وغيره مما يجوز به الاستمتاع وتقييد الإحلال له بإعطائها معجلة كما يفهم من معنى ‏{‏ءاتَيْتَ‏}‏ ظاهراً ليس لتوقف الحل عليه بل لإيثار الأفضل له صلى الله عليه وسلم فإن في للتعجيل براءة الذمة وطيب النفس ولذا كان سنة السلف لا يعرف منهم غيره، وقال الإمام‏:‏ من الناس من قال بأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يجب عليه إعطاء المهر أولاً وذلك لأن المرأة لها الامتناع من تسليم نفسها إلى أن تأخذ المهر والنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يستوفي ما لا يجب له والوطء قبل إيتاء الصداق غير مستحق وإن كان حلالاً وكيف والنبي عليه الصلاة والسلام إذا طلب شيئاً حرم الامتناع فلو طلب التمكين قبل إيتاء المهر لزم أن يجب وأن لا يجب وهو محال ولا كذلك أحدنا اه، وفيه بحث لا يخفى، وحمل الإيتاء على الإعطاء وما في حكمه كالتسمية في العقد، وجعل التقييد لإيثار الأفضل أيضاً فإن التسمية أولى من تركها وإن جاز العقد بدونها ولزم مهر المثل خلاف الظاهر‏.‏

واستدل أبو الحسن الكرخي من أصحابنا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها النبى إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك اللاتى‏}‏ على أن النكاح ينعقد بلفظ الإجارة كما ينعقد بلفظ التزويج ويكون لفظ الإجارة مجازاً عنه لأن الثابت بكل منهما ملك منفعة فوجد المشترك ورد بأنه لا يلزم من تسمية المهر أجراً صحة النكاح بلفظ الإجارة وما ذكر من التجوز ليس بشيء لأن الإجارة ليست سبباً لملك المنفعة حتى يتجوز بها عنه قاله في «الهداية»، وقال بعضهم‏:‏ إن الإجارة لا تنعقد إلا مؤقتة والنكاح يشترط فيه نفيه فيتضادان فلا يستعار أحدهما للآخر‏.‏ وتعقب بأنه إن كان المتضادان هما العرضين اللذين لا يجتمعان في محل واحد لزمكم مثله في البيع من كونه لا يجامع النكاح مع جواز العقد به عند الأصحاب، على أن التحقيق أن التوقيت ليس مفهوم لفظ الإجارة ولا جزا منه بل شرط لاعتباره فيكون خارجاً عنه فهو مجرد تمليك المنافع بعوض غير أنه إذا وقع مجرداً لا يعتبر شرعاً على مثال الصلاة فإنها الأقوال والأفعال المعروفة ولو وجدت من غير طهارة لا تعتبر، ولا يقال‏:‏ إن الطهارة جزء مفهوم الصلاة هذا ومثل تقييد إحلال الأزواج بما ذكر على ما قيل تقييد إحلال المملوكة بكونها ممن باشر سباءها وشاهده في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء الله عَلَيْكَ‏}‏ فإن المشتراة لا يتحقق بدء أمرها وما جرى عليه الجواز كون السبي ليس في محله، ولذا نكح بعض المتورعين الجواري بعقد بعد الشراء مع القول بعدم صحة العقد على الإماء‏.‏

واستشكل ذلك بمارية بنت شمعون القبطية رضي الله تعالى عنها فإنها لم تكن مسبية بل أهداها له صلى الله عليه وسلم أمير القبط جريج بن مينا صاحب الإسكندرية ومصر‏.‏ وأجيب بأن هذا غير وارد لأن هدايا أهل الحرب للإمام لها حكم الفيء، وقد يقال‏:‏ إنه يستشكل بسرية له صلى الله عليه وسلم أخرى وهي جارية وهبتها له عليه الصلاة والسلام زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها وكان هجرها عليه الصلاة والسلام في شأن صفية بنت حيي ذا الحجة والمحرم وصفر فلما كان شهر ربيع الأول الذي قبض فيه رضي الله تعالى عنها ودخل عليها فقالت ما أدري ما أجزيك فوهبتها له وقد عدوها من سراريه صلى الله عليه وسلم والجواب المذكور لا يتسنى فيها، ولعل الجواب عن ذلك أنه عليه الصلاة والسلام تسراها بياناً للجواز ولا يبعد أنه كان متحققاً بدء أمرها وما جرى عليها بحيث كأنه باشر سبيها وشاهده، ويحتمل أنها كانت مما أفاء الله تعالى عليه عليه الصلاة والسلام فملكتها زينب بعض أسباب الملك ثم وهبتها له صلى الله عليه وسلم‏.‏

ومع ذلك قد أطلق عليه الصلاة والسلام حل المملوكة بعد ولم يقيد بحسب الظاهر بكونها مما أفاء الله عليه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ يَحِلُّ لَكَ النساء مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 52‏]‏‏.‏

ثم إن هبة هذه الجارية كانت شهر وفاته صلى الله عليه وسلم والآية نزلت قبل لأنها نزلت أما سنة الأحزاب وهي السنة الخامسة من الهجرة وإما بعيد الفتح وهو السنة الثامنة منها وعلى هذا يكون ما وقع من أمر مارية متقدماً على نزول الآية لأنها أهديت له صلى الله عليه وسلم السنة السابعة من الهجرة فإنه عليه الصلاة والسلام فيها أرسل رسله إلى الملوك ومنهم حاطب بن أبي بلتعة اللخمي أرسله إلى المقوقس أمير القبط المتقدم ذكره فقدم منه بمارية وبأختها شيرين وبأخ أو بابن عم لها خصي يقال له مابور وببغلة تسمى دلدلا وبحمار يسمى يعفورا أو عفيراً وبألف مثقال ذهباً وبغير ذلك فتدبر، ومثل ما ذكر على ما قيل تقييد القرائب بكونها مهاجرات معه صلى الله عليه وسلم في قوله سبحانه‏.‏

‏{‏وَبَنَاتِ عَمّكَ وَبَنَاتِ عماتك وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خالاتك اللاتى هاجرن مَعَكَ‏}‏ فهن أفضل من غيرهن، والمعية للتشريك في الهجرة لا للمقارنة في الزمان كأسلمت مع سليمان، قال أبو حيان‏:‏ يقال دخل فلان معي وخرج معي أي كان عمله كعملي وإن لم يقترنا في الزمان، ولو قلت‏:‏ خرجنا معاً اقتضى المعنيين الاشتراك في الفعل والاقتران في الزمان وهو كلام حسن، وحكى الماوردي قولاً بأن الهجرة شرط في إحلال الأزواج على الإطلاق وهو ضعيف جداً‏.‏

وقولاً آخر بأنها شرط في إحلال قراباته عليه الصلاة والسلام المذكورات واستدل له بما أخرجه بن سعد‏.‏ وعبد بن حميد‏.‏ والترمذي وحسنه‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ والطبراني‏.‏ والحاكم وصححه‏.‏ وابن مردويه‏.‏ والبيهقي عن أم هانىء فاخته بنت أبي طالب قالت‏:‏ «خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏جَمِيلاً ياأيها النبى إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك‏}‏ إلى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏هاجرن مَعَكَ‏}‏ قالت فلم أكن أحل له لأني لم أهاجر معه كنت من الطلقاء» وأجيب بأن عدم الحل لفقد الهجرة إنما فهم من قول أم هانىء فلعلها إنما قالت ذلك حسب فهمها إياه من الآية وهو لا ينتهض حجة علينا إلاإذا جاءت به رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا يقال‏:‏ إنه أخرج ابن سعد عن أبي صالح مولى أم هانىء قال‏:‏ «خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أم هانىء بنت أبي طالب فقالت‏:‏ يا رسول الله إني مؤتمة وبنى صغار فلما أدرك بنوها عرضت نفسها عليه عليه الصلاة والسلام فقال‏:‏ أما الآن فلا إن الله تعالى أنزل على ‏{‏وَبَنَاتِ عَمّكَ وَبَنَاتِ عماتك وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خالاتك اللاتى هاجرن مَعَكَ‏}‏ ولم تكن من المهاجرات وهو يدل على أنه نفسه صلى الله عليه وسلم فهم الحرمة وإلا لتزوجها لأنا نقول بعد تسليم صحة الخبر؛ لا نسلم أنه صلى الله عليه وسلم فهم الحرمة وعدم التزوج يحوز أن يكون لكونه خلاف الأفضل، ويدل خبر أم هانىء على أن هذه الآية نزلت بعد الفتح فلا تغفل‏.‏ وادعى بعضهم أن تحريم نكاح غير المهاجرة عليه صلى الله عليه وسلم كان أولاً ثم نسخ، وعن قتادة أن معنى ‏{‏هاجرن مَعَكَ‏}‏ أسلمن معك، قيل‏:‏ وعلى هذا لا يحرم عليه عليه الصلاة والسلام إلا الكافرات وهو في غاية البعد كما لا يخفى، والظاهر أن المراد بأزواجك اللاتي آتيت مهورهن نساؤه صلى الله عليه وسلم اللاتي كن في عصمته وقد آتاهن مهورهن كعائشة‏.‏ وحفصة‏.‏ وسودة وبما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك نحو ريحانة بناء على ما قاله محمد ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم لما فتح قريظة اصطفاها لنفسه فكانت عنده حتى توفيت عنده وهي في ملكه ووافقه في ذلك غيره أخرج الواقدي بسنده إلى أيوب بن بشير قال إنه عليه الصلاة والسلام أرسل بها إلى بيت سلمى بنت قيس أم المنذر فكانت عندها حتى حاضت حيضة ثم طهرت من حيضها فجاءت أم المنذر فأخبرته صلى الله عليه وسلم فجاءها في منزل أم المنذر فقال لها‏:‏ إن أحببت أن أعتقك وأتزوجك فعلت وإن أحببت أن تكوني في ملكي أطأك بالملك فعلت فقالت‏:‏ يا رسول الله أحب أن أخف عليك وأن أكون في ملكك فكانت في ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطؤها حتى ماتت‏.‏

وذهب بعضهم إلى أنه عليه الصلاة والسلام أعتقها وتزوجها، وأخرج ذلك الواقدي أيضاً عن ابن أبي ذئب عن الزهري ثم قال‏:‏ وهذا الحديث أثبت عندنا‏:‏ وروى عنها أنها قالت‏:‏ لما سبيت بنو قريظة عرض السبي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنت فيمن عرض عليه فأمر بي فعزلت وكان له صفي كل غنيمة فلما عزلت خار الله تعالى لي فأرسل بي إلى منزل أم المنذر بنت قيس أياماً حتى قتل الأسرى وفرق السبي فدخل على صلى الله عليه وسلم فتجنبت منه حياء فدعاني فأجلسني بين يديه فقال‏:‏ إن اخترت الله ورسوله اختارك رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه فقلت‏:‏ إني أختار الله تعالى ورسوله فلما أسلمت أعتقني رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجني وأصدقني اثنتي عشرة أوقية ذهباً كما كان يصدق نساءه وأعرس بي في بيت أم النذر وكان يقسم لي كما يقسم لنسائه وضرب على الحجاب، ولم يذكر ابن الأثير غير القول باعتاقها وتزوجها‏.‏ ومنهم من ذهب إلى أنها أسلمت فأعتقها عليه الصلاة والسلام فلحقت بأهلها وكانت تحتجب عندهم وتقول‏:‏ لا يراني أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكى لحوقها بأهلها عن الزهري‏.‏ وادعى بعضهم بقاءها حية بعده عليه الصلاة والسلام وأنها توفيت سنة ست عشرة أيام خلافة عمر رضي الله تعالى عنه‏.‏ وذكر ابن كمال في «تفسيره لبيان الموصول» صفية وجويرية‏.‏ والمذكور في أكثر المعتبرات في أمرهما أن صفية لما جمع سبي خيبر أخذها دحية وقد قال له صلى الله عليه وسلم‏:‏ اذهب فخذ جارية ثم أخبر عليه الصلاة والسلام أنها لا تصلح إلا له لكونها بنت سيد قومه فقال لدحية‏:‏ خذ غيرها وأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعتقها وتزوجها وكان صداقها نفسها، وأن جويرية في غزوة بني المصطلق وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري فكاتبته على نفسها ثم جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ يا رسول الله أنا جويرية بنت الحرث وكان من أمري ما لا يخفى عليك ووقعت في سهم ثابت بن قيس وإني كاتبت نفسي فجئت أسألك في كتابتي فقال عليه الصلاة والسلام فهل لك إلى ما هو خير‏:‏ قالت‏؟‏ وما هو يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك قالت‏:‏ قد فعلت، وقال ابن هشام ويقال اشتراها صلى الله عليه وسلم من ثابت وأعتقها وتزوجها وأصدقها أربعمائة درهم، ولا يخفى عليك أنه إذا كان المراد إحلال ما ملكت يمينه صلى الله عليه وسلم حين الملك من حيث أنه ملك له وإن لم يحصل وطء بالفعل يدخل جميع ما ملكه عليه الصلاة والسلام من الجواري حين الملك ولا يضر الاعتاق والتزوج بعد ذلك وحل الوطء بسبب النكاح لا الملك وإن كان المراد إحلال ذلك مع وقوع الوطء بالفعل ووصف الملك قائم لا يصح بيان الموصول إلا بمملوكة وطئها عليه الصلاة والسلام وهي ملكه كريحانة في قول وجارية أصابها في بعض السبي وعدوها من سراريه صلى الله عليه وسلم ولم يذكر المعظم اسمها وعد الجلبي من سراريه عليه الصلاة والسلام جارية سماها زليخة القرظية فلعلها هي التي لم تسم وكمارية القبطية والجارية التي وهبتها له عليه الصلاة والسلام زينب، وقد سمعت الكلام فيهما آنفاً والمراد ببنات عمه وبنات عماته بنات القرشيين وبنات القرشيات فإنه يقال للقرشيين قربوا أو بعدوا أعمامه صلى الله عليه وسلم وللقرشيات قربن أو بعدن عماته عليه الصلاة والسلام، والمراد ببنات خاله وبنات خالاته بنات بني زهرة ذكورهم وأناثهم وإلى هذا ذهب الطبرسي في «مجمع البيان» ولم يذكر غيره، وإطلاق الأعمام والعمات على أقارب الشخص من جهة أبيه ذكوراً وإناثاً قربوا أو بعدوا والأخوال والخالات على أقاربه من جهة أمه كذلك شائع في العرف كثير في الاستعمال‏.‏

واللاتي نكحن ودخل بهن صلى الله عليه وسلم من القرشيات ست وكان نكاحه بعضهن قبل نزول الآية بيقين ونكاحه بعضهن الآخر محتمل للقبلية والبعدية كما لا يخفى على من راجع كتب السير وسمع ما قيل في وقت نزول الآية، ولم نقف على أنه عليه الصلاة والسلام نكح أحداً من الزهريات أصلاً فالمراد بإحلال نكاح أولئك مجرد جوازه وهو لا يستدعي الوقوع، وإذا حمل العم على أخي الأب والعمة على أخته والخال على أخي الأم والخالة على أختها اقتضى ظاهر الآية أن يكون له صلى الله عليه وسلم عم وعمة وخال وخالة كذلك وأن يكون لهم بنات وذلك مشهور في شأن العم والعمة وبناتهما فقد ذكر معظم أهل السير عدة أعمام له صلى الله عليه وسلم وعدة بنات لهم كالعباس ومن بناته أم حبيبة تزوجها أسود المخزومي وكان قد خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قيل فوجد أباها أخاه من الرضاعة كان قد أرضعتهما ثويبة مولاة أبي لهب، وكأبي طالب ومن بناته أم هانىء وقد سمعت ما قيل في شأنها وجمانة كانت إحدى المبايعات له صلى الله عليه وسلم وكانت تحت أبي سفيان بن الحرث عمها، وكأبي لهب ومن بناته خالدة تزوجها عثمان بن أبي العاص الثقفي وولدت له، ودرة أسلمت وهاجرت وكانت تحت الحرث بن نوفل ثم تحت دحية الكلبي، وعزة تزوجها أوفى بن أمية، وكالزبير ومن بناته ضباعة زوجة المقداد بن الأسود وأم الحكم ويقال أنها أخته عليه الصلاة والسلام من الرضاعة وكان يزورها بالمدينة وكحمزة ومن بناته أمامة لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمرة القضاء أتى بها من مكة وزوجها سلمة بن أم سلمة ومقتضى قول القسطلاني أن حمزة أخوه صلى الله عليه وسلم من الرضاعة أرضعتهما ثويبة بلبن ابنها مسروح أنها لا تحل له عليه الصلاة والسلام بل ذكر هو أيضاً أنها عرضت عليه فقال هي ابنة أخي من الرضاعة وكالحرث ومن بناته أروى زوجة أبي وداعة وكالمقوم ومن بناته من اسمها أروى أيضاً زوجة ابن عمها أبي سفيان بن الحرث وذكروا أيضاً له صلى الله عليه وسلم عدة عمات وعدة بنات لهن، منهن أميمة ومن بناتها زينب أم المؤمنين وهي التي نزل فيها قوله تعالى‏:‏

‏{‏فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً زوجناكها‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 7 3‏]‏ وأم حبيبة وكانت زوجة عبد الرحمن بن عوف، وحمنة وكانت عند مصعب بن عمير ثم عند طلحة أحد العشرة، ومنهن البيضاء ومن بناتها أروى أم عثمان رضي الله تعالى عنه‏.‏ وأم طلحة بنتاً كريز بن ربيعة؛ ومنهن عاتكة ومن بناتها قريبة بنت زاد الراكب أبي أمية بن المغيرة، ومنهن صفية ومن بناتها صفية بنت الحرث بن حارثة وأم حبيبة بنت العوام بن خويلد، وأما الخال والخالة فلم يشتهر ذكرهما، نعم ذكر في الإصابة فريعة بنت وهب الزهرية رفعها النبي صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏"‏ من أراد أن ينظر إلى خالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلينظر إلى هذه ‏"‏، وفيها أيضاً فاختة بنت عمرو والزهرية خالة النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

أخرج الطبراني من طريق عبد الرحمن بن عثمان الوقاصي عن ابن المنكدر عن جابر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ وهبت خالتي فاختة بنت عمرو وغلاماً وأمرتها أن لا تجعله جازراً ولا صائغاً ولا حجاماً، والوقاصي ضعيف‏.‏ وقال‏:‏ في صفية بنت عبد المطلب هي شقيقة حمزة أمهما هالة خالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أي هالة بنت وهب كما في «المواهب» ولم نقف لهذه الخالة على بنت غير صفية عمته عليه الصلاة والسلام، وكذا لم نقف على بنات لمن ذكرنا قبلها، ووقفنا على خال واحد له عليه الصلاة والسلام وهو عبد يغوث بن وهب ولم نقف على بنت له وإنما وقفنا على ابنين أحدهما الأرقم وله ابن يسمى عبد الله وهو صحابي كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولصاحبيه وكان على بيت المال في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه وكان أثيراً عنده حتى أن حفصة روت عنه أنه قال لها‏:‏ لولا أن ينكر على قومك لاستخلفت عبد الله بن الأرقم، وقيل‏:‏ هو ابن عبد يغوث والأرقم هو عبد يغوث، والبخاري على ما قلنا وقد أسلم يوم الفتح، وقال بعضهم فيه‏:‏ خال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن الناس من ذكر لعبد الله هذا أخاً سماه عبد الرحمن بن الأرقم وأثبت له الصحبة وفي ذلك مقال، وثانيهما‏:‏ الأسود وأطلق عليه النبي عليه الصلاة والسلام اسم الخال، فقد روى أنه كان أحد المستهزئين به صلى الله عليه وسلم فقصد جبريل عليه السلام إهلاكه فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا جبريل خالي فقال‏:‏ دعه عنك، وله ابن هو عبد الرحمن وبنت هي خالدة وكانت من المهاجرات الصالحات وقد أطلق عليها أيضاً الخالة‏.‏

أخرج المستغفري من طريق أبي عمير الجرمي عن معمر عن الزهري عن عبيد الله مرسلاً قال‏:‏ دخل النبي صلى الله عليه وسلم منزله فرأى عند عائشة امرأة فقال‏:‏ من هذه يا عائشة قالت‏:‏ هذه إحدى خالاتك فقال‏:‏ إن خالاتي بهذه البلدة لغرائب فقالت‏:‏ هذه خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث فقال‏:‏ سبحان الذي يخرج الحي من الميت قرأها مثقلة‏.‏

وأخرج موسى بن إبراهيم عن أبيه عن أبي سلمة عن عائشة موصولاً نحوه، وفي هذا الخبر وما قبله إطلاق الخال والخالة على قرابة الأم وإن لم يكن الخال أخاها والخالة أختها، وبذلك يتأيد ما ذكرناه سابقاً فاحفظ ذاك والله تعالى يتول هداك، وإياك أن تظن الأمر فرضياً أو أن الخطاب وإن كان خاصاً في الظاهر عام في الحقيقة فيكفي وجود بنات خال وبنات خالات لغيره عليه الصلاة والسلام كما يظن ذلك من يشهد العم بجهله ويصدق الخال بقلة عقله، هذا وقد كثر السؤال عن حكمة أفراد العم والخال وجمع العمة والخالة حتى أن السبكي على ماقيل صنف جزأ فيه سماه الهمة في إفراد العم وجمع العمة‏.‏

قال الخفاجي‏:‏ وقد رأيت لهم فيه كلمات ضعيفة كقول الرازي إن العم والخال على زنة المصدر ولذا لم يجمعا بخلاف العمة والخالة، وقيل لم يجمعا ليعما إذا أضيفا، والعمة والخالة لا يعمان لتاء الوحدة وهي إن لم تمنع العموم حقيقة تأباه ظاهراً، ولا يأبى ذلك قوله تعالى‏:‏ في سورة النور‏:‏ ‏{‏بُيُوتِ أعمامكم أَوْ بُيُوتِ عماتكم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 1 6‏]‏ لأنه على الأصل، ثم قال‏:‏ وأحسن منه ما قيل إن أعمامه صلى الله عليه وسلم العباس وحمزة رضي الله تعالى عنهما أخواه من الرضاع لا تحل له بناتهما، وأبو طالب ابنته أم هانىء لم تكن مهاجرة اه، وما ادعى ضعفه فهو كما قال وما زعم أنه أحسن منه إن كان كما نقلناه بهذا المقدار خالياً عن إسقاط شيء حسبما وجدناه في نسختنا فهو مما لا حسن فيه فضلاً عن كونه أحسن، وإن كان له تتمة فالنظر فيه بعد الإطلاع عليها إليك وأظنه على العلات ليس بشيء‏.‏

وقال بعض الأجلة المعاصرين من العلماء المحققين لا زال سعيد زمانه سابقاً بالفضل على أقرانه‏:‏ يحتمل أن يكون إفراد العم لأنه بمنزلة الأب بل قد يطلق عليه الأب ومنه في قول‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ إبراهيم لاِبِيهِ ءازَرَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 4 7‏]‏ والأب لا يكون إلا واحداً فكان الإفراد أنسب بمن ينزل منزلته ويكون جمع العمة على الأصل وإفراد الخال ليكون على وفق العلم وجمع الخالة وإن كانت بمنزلة الأم لتكون على وفق العمات، ويحتمل أن يكون إفراد المذكر وجمع المؤنث لقلة الذكور وكثرة الإناث، وقد ورد في الآثار ما يدل على أن النساء أكثر من الرجال‏.‏

وقال آخر من أولئك الأجلة لا زالت مدارس العلم تزهو به وتشكر فضله‏:‏ إن ذلك لما فيه من الحسن اللفظي فإن بين العم والعمات والخال والخالات نوعاً من الجناس ولأن أعمامه عليه الصلاة والسلام كانوا على ما ذكره صاحب ذخائر العقبى اثني عشر عماً وعماته كن ستاً فلو قيل أعمامك لتوهم أنهم أقل من اثني عشر لأنه جمع قلة وغاية ما يصدق هو عليه تسعة أو عشرة على قول ولو قيل‏:‏ عمتك لم تتحقق الإشارة إلى قلتهن فلذا أفرد العم وجمعت العمة وقيل‏:‏ خالك وخالاتك ليوافق ما قيل‏:‏ وأنا أقول‏:‏ الذي يغلب على ظني في ذلك ما حكاه أبو حيان عن القاضي أبي بكر بن العربي من أن ما ذكر عرف لغوي على معنى أنه جرى عرف اللغويين في مثل ذلك على إفراد العم والخال وجمع العمة والخالة، ونحن قد تتبعنا كثيراً من أشعار العرب فلم نر العم مضافاً إليه ابن أو بنت بالإفراد أو الجمع إلا مفرداً نحو قوله‏:‏

جاء شقيق عارضاً رمحه *** إن بني عمك فيهم رماح

وقوله‏:‏

فتى ليس لابن العم كالذئب إن رأى *** بصاحبه يوماً دماً فهو آكله

وقوله‏:‏

قالت بنات العم يا سلمى وإن *** كان فقيراً معدماً قالت وإن

وقوله‏:‏

يا بنت عما لا تلومي واهجعي *** فليس يخلو عنك يوماً مضجعي

إلى ما لا يحصى كثرة، وأما اطراد إفراد الخال وجمع العمة والخالة إذا أضيف إليها ما ذكر فلست على ثقة من أمره، فإذا كان الأمر في المذكورات كالأمر في العم فليس فوق هذا الجواب جواب، والظن بالقاضي أنه لم يحكم بما حكم إلا عن بينة مع أني لا أطلق القول بعدم قبول حكم القاضي بعلمه ولا أفتى به، نعم لهذا القاضي حكم مشهور في أمر الحسين رضي الله تعالى عنه ولعن من رضي بقتله لا يرتضيه إلا يزيد زاد الله عز وجل عليه عذابه الشديد، وعلى تقدير كون الأمر في العم ومن معه كما قال يحتمل أن يكون الداعي لإفراد العم والخال الرجوع إلى أصل واحد مع ما بين الذكور من جهة العمومة والخؤلة في حق الشخص المدلى بهما من التناصر والتساعد فلذلك ترى الشخص يهرع لدفع بليته إلى ذكور عمومته وخؤلته، وذلك التعاضد يجعل المتعدد في حكم الواحد، ويقوى هذا الاعتبار هنالك إضافة الفرع كالبنين والبنات إلى ذلك، ولعل في الإفراد مع جمع المضاف المذكور إشارة إلى أن البنين والبنات وإن كانوا بنين وبنات لمتعددين في نفس الأمر إلا أنهم في حكم البنين والبنات لواحد وأن كل واحد من الأعمام والأخوال لمزيد شفقته على أبناء وبنات كل كأنه أب لأبناء وبنات كل، وهذا الذي ذكرناه لا يوجد في العمات والخالات‏.‏

ولا يرد عليه جمع العم والخال في آية النور كما لا يخفى على من له أدنى نور يهتدى به إذا أشكلت الأمور، ويمكن أن يقال في الحكمة ههنا خاصة‏:‏ أنه لما كان المفرد أصلاً والمجموع فرعه والمذكر أصلاً والمؤنث فرعه أتى بالعم والخال المذكرين مفردين وبالعمة والخالة المؤنثين مجموعين فاجتمع في الأولين أصلان وفي الأخيرين فرعان بحكم شبيه الشيء منجذب إليه وإن الطيور على أشباهها تقع، وما ألطف هذا الاجتماع في منصة مقام النكاح لما فيه من الإشارة إلى الكفاءة وأن المناسب ضم الجنس إلى جنسه كما يقتضيه بعض الآيات وهو لعمري ألطف من جمع المذكر وإفراد المؤنث ليجتمع في كل أصل وفرع فيوافق ما في النكاح من اجتماع ذكر هو أصل وأنثى هي فرع لخلوه عن الإشارة إلى ذلك الضم المناسب المستحسن عند كل ذي رأي صائب على أن في جمع أصلين في العم موافقة لما في النكاح من جمع الزوجين الذين هما أصلان لما يتولد منهما وإذا اعتبر جمعهما في الخال الذي قاربته من جهة الأم التي لا تعتبر في النسب وافق الجملة ما في النكاح من اجتماع أصل وفرع فلا يفوت ذلك بالكلية على ما في «النظم الجليل»‏.‏

وأيضاً في الانتقال من الأفراد إلى الجمع في جانبي العمومة والخؤولة إشارة إلى ما في النكاح من انتقال كل من الزوج والزوجة من حال الانفراد إلى حال الاجتماع فلله تعالى در التنزيل، هذا ما عندي وهو زهرة ربيع لا تتحمل الفرك ومع هذا قسه إلى ما سمعت عن ساداتنا المعاصرين واختر لنفسك ما يحلو والله تعالى أعلم بأسرار كتابه‏.‏

‏{‏وامرأة مُّؤْمِنَةً‏}‏ بالنصب عطفاً على مفعول أحللنا عند جمع وليس معنى ‏{‏أَحْلَلْنَا‏}‏ إنشاء لإحلال الناجز ولا الإخبار عن إحلال ماض بل إعلام بمطلق الإحلال المنتظم لما سبق ولحق فلا يعكر على ذلك الشرط وهذا كما تقول أبحت لك أن تكلم فلاناً إن سلم عليك، ولما فيه من البحث قال بعضهم‏:‏ إنه نصب بفعل يفسره ما قبل أي ويحل لك امرأة أو وأحللنا لك امرأة وهو مستقبل لمكان الشرط‏.‏

وقرأ أبو حيوة بالرفع على أنه مبتدأ والخبر محذوف أي وامرأة مؤمنة أحللناها لك أيضاً ‏{‏إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِىّ‏}‏ أي ملكته المتعة بها بأي عبارة كانت بلا مهر‏.‏

وقرأ أبي‏.‏ والحسن‏.‏ والشعبي‏.‏ وعيسى‏.‏ وسلام ‏{‏إِن وَهَبَتْ‏}‏ بفتح الهمزة أي لأن وهبت وقيل‏:‏ أي وقت أن وهبت أو مدة أن وهبت فتكون أن وما بعدها في تأويل مصدر منصوب على الظرفية؛ وأكثر النحاة لا يجيزونه في غير المصدر الصريح كآتيك خفوق النجم وغير ما المصدرية، وجوز أن يكون المصدر بدلاً من ‏{‏امرأت‏}‏ وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ‏{‏إِذْ وَهَبَتْ‏}‏ وإذ ظرف لما مضى وقيل‏:‏ هي مثلها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَن يَنفَعَكُمُ اليوم إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِى العذاب مُشْتَرِكُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 9 3‏]‏ ‏{‏إِنْ أَرَادَ النبى أَن يَسْتَنكِحَهَا‏}‏ أي يتملك المتعة بها بأي عبارة كانت بلا مهر وهذا شرط للشرط الأول في استيجاب الحل فهبتها نفسها منه صلى الله عليه وسلم لا يوجب له حلها إلا بإرادته نكاحها وهذه الإرادة جارية مجرى قبول بالهبة، وقال ابن كمال‏:‏ الإرادة المذكورة عبارة عن القبول ولا وجه لحملها على الحقيقة لأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْتَنكِحَهَا‏}‏ يغني عن الإرادة بمعناه الوضعي وهو يشير إلى أن السين للطلب، وكلام بعض الأجلة على هذا حيث قال‏:‏ إرادة طلب النكاح كناية عن القبول‏.‏

وقيل‏:‏ استفعل هنا بمعنى فعل فالاستنكاح بمعنى النكاح لئلا يتوهم التكرار وفيه نظر، واستظهر صاحب هذا القيل حمل الإرادة على الإرادة المتقدمة على الهبة بناءً على أن التركيب يقتضي تقدم هذا الشرط فقد قالوا‏:‏ إذا اجتمع شرطان فالثاني شرط في الأول متأخر في اللفظ متقدم في الوقوع وهو بمنزلة الحال، ومن هنا قال‏:‏ الفقهاء‏:‏ لو قال‏:‏ إن ركبت إن أكلت فأنت طالق لا تطلق ما لم يتقدم الأكل على الركوب ليتحقق تقييد الحالية‏.‏

واستشكل السمين هذه القاعدة بما هنا بناءً على أنهم جعلوا ذلك الشرط بمنزلة القبول لاقتضاء الواقع ذلك، ثم ذكر أنه عرضه على علماء عصره فلم يجدوا مخلصاً منه إلا بأن هذه القاعدة ليست بكلية بل مخصوصة بما لم تقم قرينة على تأخر الثاني كما في نحو إن تزوجتك إن طلقتك فعبدي حرفان الطلاق لا يتقدم التزوج وما نحن فيه من هذا القبيل ثم قال‏:‏ فمن جعل الشرط الثاني هنا مقدماً لم يصب ورأيت في الفن السابع من الأشباه والنظائر النحوية للجلال السيوطي عليه الرحمة كلاماً لابن هشام ذكر فيه أن جعل الآية كالمثال ونظمهما في سلك مسألة اعتراض الشرط على الشرط هو ما ذهب إليه جماعة منهم ابن مالك، وذهب هو إلى أن المثال من مسألة الاعتراض المذكور دون الآية واحتج عليه بما احتج، ثم ذكر الخلاف في صحة تركيب ما وقع فيه الاعتراض كالمثال وأن الجمهور على جوازه وهو الصحيح وأن المجيزين اختلفوا في تحقيق ما يقع به مضمون الجواب الواقع بعد الشرطين على ثلاثة مذاهب، أحدهما‏:‏ أنه إنما يقع بمجموع أمرين، أحدهما‏:‏ حصول كل من الشرطين، والآخر‏:‏ كون الشرط الثاني واقعاً قبل وقوع الأول ففي المثال لا يقع الطلاق إلا بوقوع الركوب والأكل من تقدم وقوع الأكل على الركوب، وذكر أن هذا مذهب الجمهور‏.‏

وثانيها‏:‏ أنه يقع بحصول الشرطين مطلقاً وذكر أنه حكاه له بعض العلماء عن إمام الحرمين وأنه رآه محكياً عن غيره بعد‏.‏ وثالثها‏:‏ أنه يقع بوقوع الشرطين على الترتيب فإنما تطلق في المثال إذا ركبت أولاً ثم أكلت وأبطل كلاً من المذهبين الأخيرين وذكر في توجيه التركيب على المذهب الأول مذهبين‏.‏ الأول‏:‏ مذهب الجمهور أن الجواب المذكور للشرط الأول وجواب الثاني محذوف لدلالة الأول وجوابه عليه ولإغناء ذلك عنه وقيامه مقامه لزم في وقوع المعلق على ذلك أن يكون الثاني واقعاً قبل الأول ضرورة أن الجواب لا بد من تأخره عن الشرط فكذا الأمر في القائم مقام الشرط، والثاني‏:‏ مذهب ابن مالك أن الجواب المذكور للأول والثاني لا جواب له لا مذكور ولا مقدر لأنه مقيد للأول تقييده بحال واقعة موقعه فالمعنى في المثال إن ركبت آكلة فأنت طالق، وفيه أنه خارج عن القياس وأنه لا يطرد في إن قمت إن قعدت فأنت طالق وأن الشرط بعيد عن مذهب الحال لمكان الاستقبال‏.‏

وبالجملة قد أطال الكلام في هذه المسألة وهي مسألة شهيرة ذكرها الأصوليون وغيرهم وفيما ذكرنا فيها اكتفاء بأقل اللازم ههنا فتأمل‏.‏

وأكثر العلماء على وقوع الهبة واختلفوا في تعيين الواهبة فعن ابن عباس‏.‏ وقتادة‏.‏ وعكرمة هي ميمونة بنت الحرث الهلالية؛ وفي المواهب يقال‏:‏ إن ميمونة وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم وذلك أن خطبته عليه الصلاة والسلام انتهت إليهاوهي على بعيرها فقالت‏:‏ البعير وما عليه لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وكان ذلك سنة سبع بعد غزوة خيبر وبنى عليها عليه الصلاة والسلام بسرف على عشرة أميال من مكة، وعليه تكون إرادة النكاح سابقة على الهبة فيضعف به قول السمين‏:‏ وعن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما‏.‏ والضحاك‏.‏ ومقاتل هي أم شريك غزية بنت جابر بن حكيم الدوسية، قال في الصفوة‏:‏ والأكثرون على أنها هي التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها فلم تتزوج حتى ماتت‏.‏ وفي «الدر المنثور» عن منير بن عبد الله الدوسي أنه عليه الصلاة والسلام قبلها، وعن عروة‏.‏ والشعبي هي زينب بنت خزيمة من الأنصار كانت تدعى في الجاهلية أم المساكين لإطعامها إياهم وكان ذلك في سنة ثلاث ولم تلبث عنده صلى الله عليه وسلم إلا قليلاً حتى توفيت رضي الله تعالى عنها‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم‏.‏ وابن مردويه‏.‏ والبيهقي في «السنن» عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت‏:‏ التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم خولة بنت حكيم وقد أرجأها عليه الصلاة والسلام فتزوجها عثمان بن مظعون بإذنه صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم‏:‏ يجوز تعدد الواهبات فقد أخرج الشيخان‏.‏ وغيرهما عن عروة بن الزبير قال‏:‏ كانت خولة بنت حكيم من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم فقالت عائشة‏:‏ أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل فلما نزلت‏:‏ ‏{‏تُرْجِى مَن تَشَاء مِنْهُنَّ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 51‏]‏ قالت عائشة‏:‏ يا رسول الله ما أرى ربك إلا يسارع لك في هواك فقوله‏:‏ من اللاتي وهبن أنفسهن صريح في تعددهن، وأنكر بعضهم وقوع الهبة وقيل‏:‏ إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن وَهَبَتْ‏}‏ يشير إلى عدم وقوعها وأنها أمر مفروض وكذا تنكير ‏{‏امرأت‏}‏ فالمراد الإعلام بالإحلال في هذه الصورة إن اتفقت وأنكر بعضهم القبول‏.‏

أخرج ابن سعد عن ابن أبي عون أن ليلى بنت الحطيم وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم ووهبن نساء أنفسهن فلم نسمع أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل منهن أحداً، وما أخرجه ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ والطبراني‏.‏ وابن مردويه والبيهقي في «السنن» عن ابن عباس قال‏:‏ لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها له يحتمل نفي القبول ويحتمل نفي الهبة، وإيراده صلى الله عليه وسلم في الموضعين بعنوان النبوة بطريق الالتفات للتكرمة والإيذان بأنها المناط لثبوت الحكم فيختص به عليه الصلاة والسلام حسب اختصاصها به كما ينطق به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين‏}‏ ويتضمن ذلك الإشارة إلى أن هبة من تهب لم تكن حرصاً على الرجال وقضاء الوطر بل على الفوز بشرف خدمته صلى الله عليه وسلم والنزول في معدن الفضل، وبذلك يعلم أن قول عائشة‏:‏ ما في امرأة وهبت نفسها لرجل خير وكذا اعتراضها السابق صادر من شدة غيرتها رضي الله تعالى عنها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بدع فالمحب غيور وقد قال بعض المحبين‏:‏

أغار إذا آنست في الحي أنة *** حذاراً وخوفاً أن تكون لحبه

ونصب ‏{‏خَالِصَةٌ‏}‏ على أنه مصدر مؤكد للجملة قبله، وفاعلة في المصادر على ما قال الزمخشري غير عزيز كالعافية والكاذبة، وادعى أبو حيان عزتها، والكثير على تعلق ذلك بإحلال الواهبة أي خلص لك إحلالها خالصة أي خلوصاً، وقال الزجاج‏:‏ هو حال من ‏{‏امرأت‏}‏ لتخصصها بالوصف أي أحللناها خالصة لك لا تحل لأحد غيرك في الدنيا والآخرة‏.‏

وقال أبو البقاء‏:‏ هو حال من ضمير ‏{‏وَهَبَتْ‏}‏ أو صفة لمصدر محذوف أي هبة خالصة‏.‏ وقرىء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ذاك خلوص لك وخصوص أو هي أي تلك المرأة أو الهبة خالصة لك لا تتجاوز المؤمنين‏.‏

واستدل الشافعية رضي الله تعالى عنهم به على أن النكاح لا ينعقد بلفظ الهبة لأن اللفظ تابع للمعنى وقد خص عليه الصلاة والسلام بالمعنى فيختص باللفظ، وقال بعض أجلة أصحابنا في ذلك‏:‏ إن المرادب الهبة في الآية تمليك المتعة بلا عوض بأي لفظ كان لا تمليكها بلفظ وهبت نفسي فحيث لم يكن ذلك نصاً في التمليك بهذا اللفظ لم يصلح لأن يكون مناطاً للخلاف في انعقاد النكاح بلفظ الهبة إيجاباً وسلباً، ومعنى خلوص الإحلال المذكور له صلى الله عليه وسلم من دون المؤمنين كونه متحققاً في حقه غير متحقق في حقهم إذ لا بد في الإحلال لهم من مهر المثل‏.‏

وظاهر كلام العلامة ابن الهمام اعتبار لفظ الهبة حيث قال في «الفتح»‏:‏ قد ورد النكاح بلفظ الهبة وساق الآية ثم قال‏:‏ والأصل عدم الخصوصية حتى يقوم دليلها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَالِصَةً لَّكَ‏}‏ يرجع إلى عدم المهر بقرينة إعقابه بالتعليل بنفي الحرج فإن الحرج ليس في ترك لفظ إلى غيره خصوصاً بالنسبة إلى أفصح العرب بل في لزوم المال، وبقرينة وقوعه في مقابلة المؤتى أجورهن فصار الحاصل أحللنا لك الأزواج المؤتى مهورهن والتي وهبت نفسها لك فلم تأخذ مهراً خالصة هذه الخصلة لك من دون المؤمنين أما هم فقد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم الخ من المهر وغيره‏.‏ وأبدى صدر الشريعة جواز كونه متعلقاً بأحللنا قيداً في إحلال أزواجه له صلى الله عليه وسلم لإفادة عدم حلهن لغيره صلى الله عليه وسلم انتهى، وجوز بعضهم كونه قيداً في إحلال الإماء أيضاً لإفادة عدم حل إمائه كأزواجه لأحد بعده عليه الصلاة والسلام، وبعض آخر كونه قيداً لإحلال جميع ما تقدم على القيود المذكورة أي خلص إحلال ما أحللنا لك من المذكورات على القيود المذكورة خلصوها من دون المؤمنين فإن إحلال الجميع على القيود المذكورة غير متحقق في حقهم بل المتحقق فيه إحلال بعض المعدود على الوجه المعهود، واختاره الزمخشري، وأياً ما كان فقوله تعالى‏:‏

‏{‏قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِى أزواجهم وَمَا مَلَكَتْ أيمانهم‏}‏ اعتراض بين المتعلق والمتعلق، والأول‏:‏ على جميع الأوجه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ‏}‏ والثاني‏:‏ على الوجه الأحير وهو تعلق خالصة بجميع ما سلف من الإحلالات الأربع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَالِصَةٌ‏}‏ وهو مؤكد معنى اختصاصه عليه الصلاة والسلام بما اختص به بأن كلاً من الاختصاص عن علم وأن هذه الحظوة مما يليق بمنصب الرسالة فحسب فالمعنى أن الله تعالى قد علم ما ينبغي من حيث الحكمة فرضه على المؤمنين في حق الأزواج والإماء وعلى أي حد وصفة ينبغي أن يفرض عليهم ففرضه واختصك سبحانه بالتنزيه واختيار ما هو أولى وأفضل في دنياك حيث أحل جل شأنه لك أجناس المنكوحات وزاد لك الواهبة نفسها من غير عوض لئلا يكون عليك ضيق في دينك، وهو على الوجه الأول الذي ذكرناه وهو تعلق خالصة بالواهبة خاصة قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَحْلَلْنَا‏}‏ وهو الذي استظهره أبو حيان وأمر الاعتراض عليه في حاله، وبعضهم يجعل المتعلق خالصة على سائر الأوجه والتعلق به باعتبار ما فيه من معنى ثبوت الإحلال وحصوله له صلى الله عليه وسلم لا باعتبار اختصاصه به عليه الصلاة والسلام لأن مدار انتفاء الحرج هو الأول لا الثاني الذي هو عبارة عن عدم ثبوته لغيره صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ إن ‏{‏لّكَيْلاَ‏}‏ الخ متعلق بمحذوف أي بينا هذا البيان وشرحنا هذا الشرح لئلا يكون عليك حرج ويظن بك أنك قد أثمت عند ربك عز وجل فلا اعتراض على هذا، ولا يخلو عن اعتراض فتدبر ولا تغفل‏.‏

‏{‏وَكَانَ الله غَفُوراً‏}‏ أي كثير المغفرة فيغفر ما يشاء مما يعسر التحرز عنه وغيره ‏{‏رَّحِيماً‏}‏ أي وافر الرحمة، ومن رحمته سبحانه أن وسع الأمر في مواقع الحرج‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏تُرْجِى مَن تَشَاء مِنْهُنَّ‏}‏ أي تؤخر من تشاء من نسائك وتترك مضاجعتها ‏{‏وَتُؤْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَاء‏}‏ وتضم إليك من تشاء منهن وتضاجعها، وروي هذا عن قتادة‏.‏

وعن ابن عباس‏.‏ والحسن أي تطلق من تشاء منهن وتمسك من تشاء، وقال بعضهم‏:‏ الإرجاء والإيواء لإطلاقهما يتناولان ما في التفسيرين وما ذكر فيهما فإنما هو من باب التمثيل ولا يخلو عن حسن، وفي رواية عن الحسن أن ضمير ‏{‏مِنْهُنَّ‏}‏ لنساء الأمة والمعنى تترك نكاح من تشاء من نساء أمتك فلا تنكح وتنكح منهن من تشاء‏.‏

وقال‏:‏ كان صلى الله عليه وسلم إذا خطب امرأة لم يكن لغيره أن يخطبها حتى يتركها وعن زيد بن أسلم والطبري أنه للواهبات أنفسهن أي تقبل من تشاء من المؤمنات اللاتي يهبن أنفسهن لك فتؤويها إليك وتترك من تشاء منهن فلا تقبلها، وعن الشعبي ما يقتضيه، فقد أخرج ابن سعد والبيهقي في «السنن» وغيرهما عنه قال‏:‏ كن نساء وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل ببعضهن وأرجأ بعضهم فلم يقربن حتى توفي عليه الصلاة والسلام ولم ينكحن بعده، منهن أم شريك فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تُرْجِى مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَاء‏}‏ ويشهد لما تقدم من رجوعه إلى النساء ما أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وغيرهم عن أبي رزين قال‏:‏ هم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلق من نسائه فلما رأين ذلك أتينه فقلن لا تخل سبيلنا وأنت في حل فيما بيننا وبينك افرض لنا من نفسك ومالك ما شئت فأنزل الله تعالى الآية فأرجأ منهن نسوة وكان ممن أرجأ ميمونة وجويرية وأم حبيبة وصفية وسودة وكان ممن آوى عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب رضي الله تعالى عنهن أجمعين‏.‏ وقرأ ابن كثير‏.‏ وأبو عمرو‏.‏ وابن عامر‏.‏ وأبو بكر ‏{‏ترجىء‏}‏ بالهمزة وهو عند الزجاج أجود والمعنى واحد ‏{‏تَشَاء وَمَنِ ابتغيت‏}‏ أي طلبت ‏{‏مِمَّنْ عَزَلْتَ‏}‏ أي تجنبت وحمل هذا التجنب على ما كان بطلاق، ومن شرطية منصوبة بما بعدها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ‏}‏ جوابها أي من طلبتها ممن طلقت فليس عليك إثم في طلبها أو موصولة والجملة خبرها أي والتي طلبتها لا جناح عليك في طلبها والمراد نفي أن يكون عليه عليه الصلاة والسلام إثم في إرجاع المطلقة، وقيل من موصولة معطوفة على ‏{‏مَن تَشَاء‏}‏ الثاني والمراد به غير المطلقة ومعنى فلا جناح عليك فلا إثم عليك في شيء مما ذكر من الإرجاء والإيواء والابتغاء والمراد تفويض ذلك إلى مشيئته صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ المراد به ما كان بترك مضاجعة بدون طلاق، والمقصود من الآية بيان أن له صلى الله عليه وسلم ترك مضاجعة من شاء من نسائه ومضاجعة من شاء منهن أي ممن لم يكن أرجأها وترك مضاجعتها والرجوع إلى مضاجعة من ترك مضاجعتها واعتزالها فمن عزل هي المرجأة، وأفاد صاحب الكشاف أن الآية متضمنة قسمة جامعة لما هو الفرض لأنه صلى الله عليه وسلم إما أن يطلق وأما أن يمسك وإذا أمسك ضاجع أو ترك وقسم أو لم يقسم وإذا طلق وعزل فإما أن يخلي المعزولة لا يبتيغها أو يبتغيها وانفهام الطلاق والإمساك بأقسامه بواسطة إطلاق الإرجاء والإيواء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تُرْجِى مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِى‏}‏ وانفهام ابتغاء المعزولة من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَنِ ابتغيت‏}‏ الخ ومتى فهم أن لا جناح في ابتغاء المعزولة بالطلاق وردها إلى النكاح فهم منه أن رفع النكاح في عدم ردها من طريق الأولى ولقد أجاد فيما أفاد، وجوز بعضهم أن يكون من مبتدأ وفي الكلام معطوف وخبر محذوفان أي ومن ابتغيت ممن عزلت ومن لم تعزل سواء، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ‏}‏ تأكيد لذلك ولا يخفى بعده وتعسفه، وقال الحسن‏:‏ معنى ومن ابتغيت الخ من مات من نسائك اللواتي عندك أو خليت سبيلها فلا جناح عليك في أن تستبدل عوضها من اللاتي أحللت لك فلا تزداد على عدة نسائك اللاتي عندك كذا في «البحر»، وكأنه جعل من للبدل كالتي في قوله تعالى‏:‏

‏{‏أرضيتم بالحياة الدنيا من الاخرة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 38‏]‏ ومن عزلت شاملاً لمن ماتت ومن طلقت وكلاهما بعيد وثانيهما‏:‏ أبعد من أولهما بكثير ومثله اعتبار ما اعتبره من القيود وبالجملة هو قول تبعد نسبته إلى الحسن، وأبعد من ذلك نسبته إلى ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما في «الدر المنثور»‏.‏

‏{‏ذَلِكَ أدنى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا ءاتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ‏}‏ أي تفويض الأمر إلى مشيئتك أقرب إلى قرة عيونهن وسرورهن ورضاهن جميعاً لأنه حكم كلهن فيه سواء ثم إن سويت بينهن وجدن ذلك تفضلاً منك وإن رجحت بعضهن علمن أنه بحكم الله تعالى فتطمئن به نفوسهن، وروي هذا عن قتادة، والمراد بما آتيتهن عليه ما صنعت معهن فيتناول ترك المضاجعة والقسم، وعن ابن عباس‏.‏ ومجاهد أن المعنى أنهن إذا علمن أن لك ردهن إلى فراشك بعد ما اعتزلتهن قرت أعينهن ولم يحزن ويرضين بما تفعله من التسوية والتفضيل لأنهن يعلمن أنك لم تطلقهن، وظاهره جعل المشار إليه العلم بأن له صلى الله عليه وسلم الإيواء، وأظهر منه في ذلك قول الجبائي ذلك العلم منهن بأنك إذا عزلت واحدة كان لك أن تؤويها بعد ذلك أدنى لسرورهن وقرة أعينهن‏.‏

وقال بعض الأجلة‏:‏ كون الإشارة إلى التفويض أنسب لفظاً لأن ذلك للبعيد وكونها إلى الإيواء أنسب معنى لأن قرة عيونهن بالذات إنما هي بالإيواء فلا تغفل، والأعين جمع قلة وأريد به ههنا جمع الكثرة وكأن اختياره لأنه أوفق بكمية الأزواج، وقرأ ابن محيصن ‏{‏تَقَرَّ‏}‏ من أقر وفاعله ضميره صلى الله عليه وسلم و‏{‏أَعْيُنُهُنَّ‏}‏ بالنصب على المفعولية‏.‏

وقرىء ‏{‏تَقَرَّ‏}‏ مبنياً للمفعول وأعينهن بالرفع نائب الفاعل و‏{‏كُلُّهُنَّ‏}‏ بالرفع في جميع ذلك وهو توكيد لنون ‏{‏يرضين‏}‏‏.‏

وقرأ أبو إياس جوية بن عائذ ‏{‏ءاتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ‏}‏ بالنصب تأكيداً لمضيره في ‏{‏ءاتَيْتَهُنَّ‏}‏ قال ابن جني‏:‏ وهذه القراءة راجعة إلى معنى قراءة العامة ‏{‏كُلُّهُنَّ‏}‏ بضم اللام وذلك أن رضاهن كلهن بما أوتين كلهن على انفرادهن واجتماعهن فالمعنيان إذن واحد إلا أن للرفع معنى وذلك أن فيه إصراحاً من اللفظ بأن يرضين كلهن، والإصراح في القراءة الشاذة إنما هو في إتيانهن وإن كان محصول الحال فيهما واحداً مع التأويل انتهى، وقال الطيبي‏:‏ في توكيد الفاعل دون المفعول إظهار لكمال الرضا منهن وإن لم يكن الإيتاء كاملاً سوياً، وفي توكيد المفعول إظهار أنهن مع كمال الإيتاء غير كاملات في الرضا، والأول أبلغ في المدح لأن فيه معنى التتميم وذلك أن المؤكد يرفع إيهام التجوز عن المؤكد انتهى فتأمل ‏{‏والله يَعْلَمُ مَا فِى قلُوبِكُمْ‏}‏ خطاب له صلى الله عليه وسلم ولأزواجه المطهرات على سبيل التغليب‏.‏

والمراد بما في القلوب عام ويدخل فيه ما يكون في قلوبهن من الرضا بما دبر الله تعالى في حقهن من تفويض الأمر إليه صلى الله عليه وسلم ومقابل ذلك وما في قلبه الشريف عليه الصلاة والسلام من الميل إلى بعضهن دون بعض، والكلام بعث على الاجتهاد في تحسين ما في القلوب، ولعل اعتباره صلى الله عليه وسلم في الخطاب لتطييب قلوبهن، وفي «الكشاف» أن هذا وعيد لمن لم يرض منهن بما دبر الله تعالى من ذلك وفوض سبحانه إلى مشيئة رسوله عليه الصلاة والسلام وبعث على تواطىء قلوبهن والتصافي بينهن والتوافق على طلب رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم وطيب نفسه الكريمة، والظاهر أنه غير قائل بدخوله صلى الله عليه وسلم في الخطاب، وحينئذٍ فإما أن يقول‏:‏ إنه عام لهن ولسائر المؤمنين وإما أن يقول بأنه خاص بهن ولعله ظاهر كلامه وعليه لا يظهر وجهه التذكير، وربما يقال على الأول‏:‏ إن المقام غير ظاهر في اقتضاء دخول سائر المؤمنين في الخطاب، وقال ابن عطية‏:‏ الإشارة بذلك ههنا إلى ما في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من محبة شخص دون شخص ويدخل في المعنى المؤمنون، وربما يتخيل أن الخطاب لجميع المكلفين والكلام بعث على تحسين ما في القلوب في شأن ما دبر الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في أمر أزواجه ونفي الخواطر الرديئة بأن يظن أن ذاك هو الذي تقتضيه الحكمة وأنه دليل على كمال المحبوبية، ولا يتوهم خلافه فإن بعض الملحدين طعنوا كالنصارى في كثرة تزوجه عليه الصلاة والسلام وكونه في أمر النساء على حال لم يبح لأمته من حل جمع ما فوق الأربع وعدم التقيد بالقسم لهن مثلاً وزعموا أن في ذلك دليلاً على غلبة القوة الشهوية فيه عليه الصلاة والسلام وذلك مناف لتقديس النفس الذي هو من شأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فجزموا والعياذ بالله تعالى بنفي نبوته وأن ما فعله صلى الله عليه وسلم لم يكن منه تعالى بل ليس ذلك إلا منه عليه الصلاة والسلام‏.‏

ولا يخفى أن قائلي ذلك على كفرهم جهلة بمراتب الكمال صم عن سماع آثاره عليه الصلاة والسلام ومن سبر الأخبار علم أنه صلى الله عليه وسلم أكمل الأنبياء على الإطلاق لغاية كمال بشريته وملكيته وآثار الكمال الأول تزوج ما فوق الأربع والطواف عليهن كلهن في الليلة الواحدة وآثار الكمال الثاني أنه عليه الصلاة والسلام كثيراً ما كان يبيت ويصبح لا يأكل ولا يشرب وهو على غاية من القوة وعدم الاكتراث بترك ذلك وليس لأحد من الأنبياء عليهم السلام اجتماع هذين الكمالين حسب اجتماعهما فيه عليه الصلاة والسلام ولتكثره النساء حكمة دينية جليلة أيضاً وهي نشر أحكام شرعية لا تكاد تعلم إلا بواسطتهن مع تشييد أمر نبوته فإن النساء لا يكدن يحفظن سراً وهن أعلم الناس بخفايا أزواجهن فلو وقف نساؤه عليه الصلاة والسلام على أمر خفي منه يخل بمنصب النبوة لأظهرنه، وكيف يتصور إخفاؤه بينهن مع كثرتهن‏.‏

وكل سر جاوز الاثنين شاع *** وفي عدم إيجاب القسم عليه عليه الصلاة والسلام تأكيد لذلك كما لا يخفى على المنصف ‏{‏وَكَانَ الله عَلِيماً‏}‏ مبالغاً في العلم فيعلم كل ما يبدي ويخفي ‏{‏حَلِيماً‏}‏ مبالغاً في الحلم فلا يعجل سبحانه بمقابلة من يفعل خلاف ما يحب حسبما يقتضيه فعله من عتاب أو عقاب أو فيصفح عما يغلب على القلب من الميول ونحوها، هذا وفي «البحر» اتفقت الروايات على أنه عليه الصلاة والسلام كان يعدل بين أزواجه المطهرات في القسمة حتى مات ولم يستعمل شيئاً مما أبيح له ضبطاً لنفسه وأخذاً فالأفضل غير ما جرى لسودة فإنها وهبت ليلتها لعائشة وقالت‏:‏ لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب أنه قال لم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرجأ منهن شيئاً ولا عزله بعد ما خيرن فاخترنه‏.‏

وأخرج الشيخان‏.‏ وأبو داود‏.‏ والنسائي‏.‏ وغيرهم عن عائشة أن رسول الله عليه الصلاة والسلام كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن أنزلت هذه الآية ‏{‏تُرْجِى مَن تَشَاء مِنْهُنَّ‏}‏ فقيل لها‏:‏ ما كنت تقولين‏؟‏ قالت‏:‏ كنت أقول له إن كان ذاك إليّ فإني لا أريد أن أوثر عليك أحداً فتأمله مع حكاية الاتفاق السابق والله تعالى الموفق‏.‏